حين وقع بعض الناس في عرض عائشة رضي الله عنه تعالى عنها، شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام على المنبر فقال: ((من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا))، ومكث شهرًا لا ينزل عليه في شأنها شيء، حتى إنه هم في فراق عائشة، وهي أحب الناس إليه، واستشار في ذلك زيد بن حارثة، وعلى ابن أبي طالب، ومع كل ذلك فقد جعل الله هذا سببًا لخير عظيم، فقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} [سورة النــور 24/11]، وإنا لنرجو أن يكون ما وقع في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم خيرًا لنا في ديننا ودنيانا، وإن كان ذلك سببًا لغيظ صدورنا وإدخال الضرر علينا، ولكن المحن يكون في طيها المنح.
لم يكن هذا أول أمر يقع من الأعداء يغيظ المؤمنين ويستذلهم، ويسخر بهم، فلقد فعلوا شيئًا كثيرًا، من انتهاك الأعراض، وامتهان القرآن تارة بوضع أوراقه الشريفة في مكان لا يليق، وتارة بمحاولة تحريفه، والعبث فيه، وتغيير ألفاظه ومعانيه.
وهذا إنما يدل على ضعف المسلمين وتفرقهم وتخاذلهم، وتقاعسهم عن القيام بنصرة دينهم، وعدم أخذ أسباب القوة في الدفاع عن عقيدتهم، وركونهم إلى الظالمين، ورضاهم بالدنيا واطمئنانهم بها.
إلا أن هذا الحادث كان له أعظم الأثر لعدد من الأمور:
أولاً: تعلقه بالنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وإظهاره في مظهر لا يليق.
ثانيًا: وقاحة الصحافة الدنماركية ومجاوزتها الحد في الاستمرار في هذا العمل البشع.
ثالثًا: عدم تقديم أي اعتذار، بل الاحتجاج لهذا الفعل بحرية التعبير.
إن حرب الكفار للمسلمين، ونيلهم من معتقداتهم وحرماتهم لا يقع في الغالب إلا عن دراسة، ويؤخذ في الحسبان الحذر من إثارة الغضب العام، والابتعاد عما يكون فيه اتفاق بين المسلمين كلهم، ولهذا ينالون من كل مجتمع، أو أصحاب توجه ومعتقد معين على حدة، بحيث لا ينتصر له الآخر، ويسول له الشيطان أن الأمر لا يعنيه، وربما يفرح لوقوع هذا بإخوانه بسبب ما بينهم من العداوة، ويكون موقف المسلمين ضعيفًا، كما وقع في محاربة أمريكا لعدد من الدول الإسلامية، ولبعض الحركات والتوجهات.
وحين يقع ما يحتمل أن يكون فيه اتفاق بين المسلمين، وتبدأ ردود الفعل تظهر على السطح، ويخشى من انتشارها واستمرارها، تسارع الدول الكافرة إلى امتصاص الغضب، وحرف القضية عن مسارها بعدد من الطرق.
لكن هذه الدولة الصغيرة الحقيرة لم تفعل ذلك، واستمرت في جهالتها وغيها.
لقد كشفت هذه الأزمة عن وجود غيرة كامنة في النفوس، وحرقة على دين الله، ومحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن شابها شيء من التصرفات الخاطئة، وإصابة قومٍ بجهالة.
كما كشفت عن أن الأمة يمكنها أن تفعل شيئًا، وأنها إذا غضبت، واجتمع غضبها على شيء، فلن يقف في وجهها أحد.
كما كشفت هذه الأزمة عن عدد من السلبيات في حياة المسلمين يجب أن يحرصوا على إزالتها، وهي:
1- انعدام القيادات الصادقة في أغلب بلدان المسلمين على المستوى السياسي والعلمي، التي تجتمع عليها الأمة وتصدر عن رأيها، ويدل على هذا تفاوت تصرفات المسلمين، واختلاف ردود أفعالهم، كما أن المطلوب من الدنمارك ليس شيئًا متفقًا عليه، فالدول الإسلامية على المستوى الرسمي تطالب بالاعتذار ممن صدرت منه الإساءة، وإيقاف مثل هذا التصرف في المستقبل، بينما تجد شريحة أخرى تذهب إلى أبعد من ذلك.
2- انحصار ردود الفعل -في الغالب- في التصرفات السلبية كالمقاطعة مثلاً، أو التصرفات العشوائية، التي تسيء إلى الإسلام، من حرق السفارات، وإشاعة الفوضى، ووقوع حالات قتل في صفوف المسلمين بسبب عدم انضباط الناس في إظهار غضبهم.
3- جهل قطاع كبير من المسلمين بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، ووسيلة نصره، وظنهم أن ذلك إنما يكون بالخروج في الشوارع وحرق الأعلام، وإشاعة الفوضى، وغير ذلك من التصرفات.
4- عدم استغلال هذا الموقف لتصحيح واقع المسلمين، والخروج بهم من ظلمات الجهل والهوى، إلى نور العلم والهدى.
5- ضعف المسلمين، وقلة حيلتهم، وهوانهم على الناس، فإن الأمة القوية لا تكون ردود أفعالها تجاه الاستهزاء بقدوتها وحبيبها بمثل هذه التصرفات، وهذا يوجب على الأمة أن تأخذ بأسباب القوة، وأن تسعى لأن تكون مرهوبة الجانب.
هل يمكن أن تحيى الأمة، وأن تستفيق من سباتها، وأن تنظم صفوفها، وتتبع كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم؛ لكي تنتقم لنبيها حقًا، وترد كيد الأعداء في نحورهم.
هذا هو المأمل، وإلا فإن الله يتولى عمن يخذل نبيه، ولا ينصره، ويستبدل بهم قومًا يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، والله ناصر دينه، ومنتقم لرسوله، ولو كره الكافرون