وهذا هو منشأ غمّ يونس، حين عصى وخالف وظلم {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (88) سورة الأنبياء، وهذا هو أيضا منشأ غم موسى الذي نجاه الله منه، حين قتل القبطي وخالف وعصى وظلم {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (16) سورة القصص، {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} (40) سورة طـه
وهو نفسه منشأ غم المؤمنين في سورة آل عمران، بعدما {فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ...... فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحزَنُوا} ، فهذا هو عين منشأ غمّ يونس، حين فشل وعصى وتنازعته نفسه، بين أمر الله وبين أمره من تلقاء نفسه، كما نهى الله نبيه محمداً في سورة يونس أن يأتي بشيء من تلقاء نفسه، مثلما فعل يونس من قبل فعصى وظلم.. {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً}..
فلم يعالج الله الغم بـالأمنة النعاس?، إلا لما كان من الاضطراب والنزاع؟، فللاضطراب النعاس، وللنزاع الأمنة..
إذا، الغم إبهام واضطراب وذهاب بالرؤية، وارجعوا إلى الآية التي جمع الله فيها بين المنازعة والرؤية والغم..
{فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ...... فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ}.
والآن تتضح لنا مفاصل الحكمة وأركانها، من الرؤية التي بنينا عليها فهمنا وتدبرنا، ومن ضدها المتمثل في الغم والظلمات، فمن يرد الله أن يهديه، ينجّه من الغم والظلمات، ثم إذا شاء أن يرفعه أراه فآمن، {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}!.
والآن تستبين لنا معاني هذا الاسم، يونس..
فما معناه في اللسان العربي أولا؟.
يونس، من أنس، ولا يبعد أن تهمز، فيقال: يؤنس، ويؤسف، من آنس وآسف. {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } (84) سورة يوسف.
وآنس: رأى وأبصر واستعلم، وهو أعلى أفعال الرؤية، لما يخالجه من الإحساس والشعور!. كما في ذكر موسى، {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} (29) سورة القصص
فكما كانت الرؤية هي ركن الحقيقة، وفصل خطابها، فقد هيأ الله لهذه الحقيقة والحكمة مثلاً للناس، في قوم ونبيهم المؤانس!، وأقام لهذا النبي اسماً وتعريفاً، لهذه الحكمة وركنها الأظهر، فسماه يونس، كالذي آنس ورأى وعلم.. حتى تصير اختزالاً وعنواناً لما جرى على قومه حين رأوا وآنسوا!.
وانتبه إلى آخر سورة القلم سورة نون، حيث يختمها الله بذكر يونس، ثم يذكر الإبصار مباشرة بعدها، {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} (51) سورة القلم
وكيف جمع بين الوفاة والبصيرة { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (22) سورة ق!.
وكيف تختم سورة الصافات، صاحبة التفصيل في يونس، كيف تختم على آيات الإبصار، {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ثمّ {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (179) سورة الصافات
فأسماء الأنبياء، كما قلنا، أسماء توظيف، موقوفة على الحكمة العليا لله الحكيم، من مثل ما شرحنا في نوح، ومحمد، وسليمان، ولقمان..
إذا..
إنها الحالة نفسها التي عاينها يونس النبي ورآها، ثم عاينها قومه من بعده، ألم يقل الله {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}؟، فمن هذا الذي يلبث إلى يوم البعث، غير الميت؟!.
فرجع إلى مائة ألف، فآمنوا كما يؤمن الواحد من الناس..
إنها اللحظة التي يستوي فيها مائة ألف بواحد..
إنها لحظة الحق والحقيقة، الخالصة لله الرب الحق الأعلى..
باختصار..
فقد أجرى الله على قوم يونس الوفاة حين تلبّسهم العذاب، ورأوه رأي العين حتى صاروا جميعا في سلطان الله، فانقطعوا عن الدنيا وسكرتها وغمها، فانكشف عنهم غطاء العمى وحُجُب الغفلة، فرأوا عين الحق، فآمنوا، فقبل الله إيمانهم -على غير مألوف سنّته في الناس- وردهم إلى حياتهم إلى حين!.
واذكر جيداً، كيف سمّى الله نفسه بعد ذكر القصة ببضع آيات، وفي سورة يونس بالذات، بـ{اللّهَ..الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}!.
فهل من متدبر!؟.
وهذا تماما مثلما جرى لفرعون في السورة نفسها، فآمن، وهو الجاحد الشاك العنيد، ولكن الله أجرى على فرعون السنّة والمألوف فلم يقبل منه إيمانه.. وانتبه أيضاً، كيف ساق الله قصة فرعون بهذه الحيثيات التي لم يذكرها في سورة غير سورة يونس، ولم يشهد إيمان فرعون ساعتها إلا الله، فلماذا يذكرها الله قبل قصة قوم يونس بالذات، وفي سورة يونس بالذات، فهل من متدبر؟!.
فاشهدوا على حالة يؤمن بها من هو بكفر فرعون!..
فإذا آمن فرعون، فمن لا يؤمن؟!
فلا جرم استبق الله ذكر قوم يونس بذكر فرعون، ثم أتبعها بالذكر الثقيل القاهر.. {اللّهَ..الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}!.
وهذا ليس ببعيد على الله، فكلنا نقرأ آية البقرة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} (243) سورة البقرة
وقد يسأل سائل: لعلهم آمنوا بالتراخي، فلا يلزم ما نقول؟.
فنقول: آية الصافات تشير إلى الترتيب والتعقيب بحرف الفاء {فأرسلناه.. فآمنوا}، وآية سورة يونس، تشير إلى أنهم آمنوا من رؤيتهم العذاب، فكشفه الله، وهذا يفرض اللحظة الواحدة، وينفي التراخي..
وقد يسأل آخر: إنه ليس بالضرورة أن يكون المائة ألف هم قوم يونس انفسهم، بل قد يكونون قوماً غيرهم؟
فنقول: إن قوم يونس لم يؤمنوا لدعوته، فخرج يونس من بينهم ولم يصبر عليهم، ثم علمنا أن قوم يونس آمنوا جميعا بنص الآية (98)، فكيف نوفق بينهما؟ إلا أن يكون الذي أرسل إليهم يونس في المرتين هم أنفسهم، وهم قومه الذين رجع إليهم، إذ ليس عندنا خبر ثابت من إن يونس اُرسل إلى غير قومه.
وحتى إن فرضنا جدلاً أن المائة ألف هم قوم غير قومه، فيبقى البحث كما هو، كيف يؤمن كل القوم المائة ألف؟.
فيكون جوابنا، هو بحثا هذا..
ثم اقرأوا معنا هذه الآيات من سورة يونس، بعدما علمتم، عن الذي بين يونس والرؤية..
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} {46}.
{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} {51}
{وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} {54}.
{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} {88}.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} {91}.
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} {98}.
{وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}.
ولنا بإذن الله تتمة، عن مفاصل الحكمة في القصة.. عن الفلك المشحون، وعن الحوت، وعن أبق ودحض ونبذ، وعن المشحون والعراء، وعن اليقطين، وعن النون، وسورة نون القلم، وعن سُقم يونس وسُقم إبراهيم في سورة الصافات...
وعن علاقة يونس بموسى، وحوتهما، وعن نون يونس، وعن يونس –بالمعنى الذي أشرنا إليه- واستئناس موسى، ورؤيته للنار، وعن وفاة فرعون موسى كقوم يونس وإيمانه عند رؤية العذاب، كما قصت سورة يونس، وعن جمع الله موسى ويونس، بالإنجاء من الغم فنجيناه من الغم، وفنجيناك من الغم!.
ولكن استمسكوا بالمفتاح الصحيح، بأن تعظموا الله وتوقروه، فلا تقبلوا أبداً أن يكون الله يقُص قصَصَ القُصاص، ويحكي حكايا الناس!.
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ}
{ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}