مقام الشفاعة وأقسام الناس فيها
قال أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
[والشَّفَاعَةُ التي ادَّخرها لهم حقٌ، كما رُوي في الأخبار].
الشرح:
يقصد الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ بالضمير في قوله: [ادَّخرها] أي: الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكما في فقرة: [والحوض الذي أكرمه الله تَعَالَى به غِيَاثاً لأمته حق] فكل الضمائر تعود إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في فقرة [وقد أُسري بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرج بشخصه في اليقظة] ثُمَّ قَالَ: [والشَّفَاعَةُ التي ادخرها لهم حق كما رُوي في الأخبار] وهذه الفقرة أطال المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في شرحها وتعرض فيها لموضوعين أساسيين في الجملة:
الموضوع الأول: إثبات شفاعته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان أنواعها.
والموضوع الآخر هو: ما يتعلق بالتوكل وهو الذي ذكره في آخر موضوع الشَّفَاعَةِ.
باب الشَّفَاعَةِ بابٌ مهمٌ وعظيم؛ لأن النَّاس نتيجة غلطهم وجهلهم وانحرافهم في موضوع الشَّفَاعَةِ، وقعوا في الشرك الأكبر، وخرجوا من التوحيد، والصراط المستقيم إِلَى السبل المنحرفة والضلالات. فالمُشْرِكُونَ الذين بُعِثَ فيهم الأَنْبِيَاء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، كانوا يعبدون الأصنام بذريعة الشَّفَاعَة، والذين يعبدون الأولياء والصالحين، وينتسبون إِلَى هذه الأمة يتذرعون أيضاً بالشَّفَاعَة أو بالتوسل، فهذا أمر عظيم يجب أن نتفطن له .
وهناك أمور ينبغي أن نعلمها أولاً: أن النَّاس في الشَّفَاعَةِ عَلَى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط.
أهل الغلو في إثبات الشفاعة
أما الطرفان:
فأولهما: المثبتون للشفاعة في غير موضعها ولغير أهلها، سواء كَانَ ذلك في الشافع أو في المشفوع له، فهَؤُلاءِ غلوا في إثبات الشَّفَاعَةِ، وجعلوها في غير ما أنزل الله تَعَالَى إما أنهم جعلوا من ليس أهلاً في الشَّفَاعَةِ شافعاً، والله لم يجعله شافعاً، أو جعلوه مشفوعاً له، ولم يأذن الله تَعَالَى بأن يُشْفَع له، وغلوا في ذلك حتى آل بهم الأمر إِلَى الشرك الأكبر.
وهَؤُلاءِ: هم المُشْرِكُونَ قديماً وحديثاً، فأما المُشْرِكُونَ في الجاهلية وقبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد أخبر الله عنهم في آيات كثيرة من ذلك قوله سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18] أي: يعبدون الأصنام والأحجار التي لا تضر ولا تنفع، كما خاطب إمام الموحدين إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام قومه بقوله: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء:72، 73] لا ينفعون ولا يضرون ولكن العلة هي الشَّفَاعَة، ومن ناحية أخرى الوسيلة، ولهذا فموضوع الشَّفَاعَةِ والوسيلة له ارتباطات، فهَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ اتخذوا من غير الله آلهة وعبدوا من دون الله ما لا يضرهم، ولا ينفعهم من الأصنام الجامدة، أو من الصالحين، أو من الموتى الهالكين الغابرين، وكل ذلك بحجة أن هَؤُلاءِ شفعاؤنا عند الله.
وفي الآية الأخرى مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] هي أيضاً بهذا المعنى، فإن الذي يقرب إِلَى الله هو الشافع الوسيط المتوسل به الذي يصل الإِنسَان إِلَى مراده وغايته، فهَؤُلاءِ جعلوهم شفعاء عند الله، وهذا شرك في حقيقته، وإن كانت هذه الأصنام لا تخلق وترزق، ولا تستحق العبادة وحدها؛ لكن يقولون: نعبد الله وهو إله واحد وهذه الآلهة تشفع لنا عند الله، وقد كانوا في الجاهلية يقولون: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك" فلا يجعلون هذا الشفيع واسطة فقط يقرب ويشفع عند الله؛ بل مع ذلك يجعلونه مملوكاً لله فقد قالوا: "تملكه، وما ملك" ومع ذلك فهذا بعينه هو الشرك الأكبر.
والشَّفَاعَةُ إذا نظرنا إليها من أصلها اللغوي وجدنا أن الشفع في اللغة هو: ضد الوتر، بمعنى: الاقتران أو الضم فمثلاً (2،4،6،...) هذه الأعداد تسمى الأعداد الشفعية فتقول: شفعت هذا بهذا، ضممت هذا إِلَى هذا، فالواحد وتراً لكن الاثنان شفعاً؛ لأنك ضممت واحد إِلَى واحداً فأصبحت شفعاً.
فالذي يحصل أن الْمُشْرِكِينَ يضمون مع الله تَعَالَى غيره، وذلك: بأن يدعو الله، ويدعو غير الله، ويقول قائلهم: هذا يشفع لي عند الله، فأنا عندما أدعو الله أنا ضعيف، ومذنب، ومقصر، كيف أدعو الله وأتقرب وأتوسل إليه بعملي أنا؟ فماذا أصنع؟! أشفع دعائي بدعاء رجل صالح! أو بدعاء الولي الفلاني، أو النبي الفلاني، أو بالأصنام أياً كانت، فأضم هذا إِلَى عملي، فيصبح الأمر أرجى للقبول عند الله تعالى، وهذا ما يفعله المتعلقون بالأموات والقبوريين في الجاهلية والإسلام.
فهَؤُلاءِ الذين أثبتوا الشَّفَاعَة، وغلوا في إثباتها، جعلوها في غير موضعها لأن هذه الأصنام لا تشفع، لأنها أحجار صماء بكماء،وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] وقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه[البقرة:255] فالشَّفَاعَةُ لمن ارتضى ولمن أذن الله تَعَالَى ولمن شهد بالحق وهم يعلمون، لأهل التوحيد والإيمان يشفع الله ما شاء له أن يشفع.
أهل التفريط والإنكار
وهم الذين أنكروا الشَّفَاعَة بالكلية، وهَؤُلاءِ هم المعتزلة والخوارج ، فهم ينكرونها بناءاً عَلَى أصلهم الفاسد في حكم مرتكب الكبيرة.
فـأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ والسلف الصالح رَضِيَ اللهُ عَنْهُم كلهم أجمعوا عَلَى أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، كما صرحت بذلك الآيات من كتاب الله، والأحاديث الثابته من كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو قول وعمل واعتقاد أي: اعتقاد بالباطن وانقياد وإذعان بالظاهر، وقد نقل الإجماع عَلَى ذلك عدد من أئمة السلف منهم الإمام البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ، كما روى عنه اللالكائي بسند صحيح قَالَ: "رويت عن أكثر من ألف من أهل العلم ولم أنقل إلا عمن يقول الدين قول وعمل". وهذا هو قول الأمة قبل أن تظهر بدعة المرجئة والخوارج فهذا معنى قولنا: إن السلف قالوا: إن الإيمان قول وعمل.
المصدر : الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي