لماذا تشهد أعضاء العبد عليه يوم القيامة وقد قامت الحجة عليه بكتابة الملكين ؟
لا شك أن الله يعلم ما الخلق عاملوه قبل أن يخلقهم ، وقد روى مسلم (4797) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .
وروى أبو داود (4078) عن عُبَادَة بْن الصَّامِتِ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
والله تعالى خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ، فأرسل الرسل وأنزل الكتب ونصب الحجج وأقام البراهين والآيات البينات ، فأمرهم ونهاهم ورغبهم ورهبهم ، وجعل عليهم ملائكة حفظة يكتبون ما يقولون ويفعلون ، حتى إذا بعثهم يوم القيامة دفع لكل واحد منهم كتابه ، قال تعالى : ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) الإسراء/ 13، 14 ، فيشهد الرب عليه وهو خير الشاهدين ، وتشهد عليه كتبته الحافظون ، ويشهد عليه الناس ، بل وتشهد عليه الأرض ، ثم تشهد عليه أعضاؤه بما كان من عمله ، فتقوم الحجة البالغة للرب تعالى على جميع خلقه ، فلا يدخل داخل منهم النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة ، وأنه يدخلها مستحقا أن يكون من أهلها فلا عذر له عند الله .
وإنما تشهد على الكافر والمنافق أعضاؤه بما كان من عمله لأنه ينافح يومئذ عن نفسه بكل ما يستطيع ، ويكذب على الله ، ويتبرأ من عمله ويتنصل منه ، ويدعي أنه كان يعمل الصالحات ، ويتهم ملائكة الرحمن بأنهم كتبوا عليه ما لم يعمل ؛ لما يرى من سوء الحال وأنه إن أقر هلك لا محالة ، فلا يزال ينافح ويكذب ويدفع حتى تشهد عليه أعضاؤه ، وتتكلم بما كان من عمله السيئ الذي كان عليه في الدنيا . وحينئذ لا تبقى له حجة عند نفسه ، وذلك أن الله تعالى يقول : ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) الأنعام/ 149 .
قال ابن جرير رحمه الله :
" ويعني بـ( البالغة ) أنها تبلغ مراده في ثبوتها على من احتج بها عليه من خلقه ، وقطع عذره إذا انتهت إليه فيما جعلت حجة فيه " .
"تفسير الطبري" (12 /212)
وروى مسلم (5270) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في محاسبة الله للعبد يوم القيامة قال :
( ... ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ : أَيْ فُلْ – يعني يا فلان - أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ ؟ فَيَقُولُ بَلَى أَيْ رَبِّ فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ لَا . فَيَقُولُ : فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي ، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ ، فَيَقُولُ : هَاهُنَا إِذًا ، قَالَ : ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ : مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ : انْطِقِي ، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ ) .
وروى مسلم (5271) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : " كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ ؟ قَالَ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .قَالَ : مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَقُولُ : يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنْ الظُّلْمِ ؟ قَالَ يَقُولُ بَلَى . قَالَ فَيَقُولُ فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي ، قَالَ فَيَقُولُ : كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا ، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا . قَالَ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ : انْطِقِي . قَالَ فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ قَالَ ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ قَالَ فَيَقُولُ : بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ " .
قال ابن الجوزي رحمه الله :
" المناضلة الرمي بالسهام والمراد بها هاهنا المدافعة عنها والاعتذار " .
انتهى "كشف المشكل" (ص 874) .
فتنطق أعضاؤه بما كان من عمله ليزول عذره تماما ، وتقوم الحجة البالغة لله تعالى عليه .
قال التوربشتي رحمه الله :
" والمعنى : ليزيل الله عذره من قبل نفسه بكثرة ذنوبه وشهادة أعضائه عليه بحيث لم يبق له عذر يتمسك به " انتهى من "مرقاة المفاتيح" للملا علي القاري (16 /127) .
وقال الحميدي رحمه الله :
" أي لتقوم الحجة عليه بشهادة أعضائه عليه ، يقال أعذر فلان من نفسه ، إذا أُتِيَ من نفسه ، كأنها هي التي قامت بعذر مَن لامها ، ومن ذلك قوله : ( لن يهلك الناس حتى يُعذِروا من أنفسهم ) ، أي حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم ، فتقوم الحجة عليهم ، ويكون العذر واضحا لمن يعاقبهم " انتهى من "تفسير غريب ما في الصحيحين" (ص 171) .
والحاصل :
أن علم الله تعالى سابق بعمل عبده كله ، وقد كتب ذلك كله في اللوح المحفوظ ، ثم كتب عليه أيضا وهو في بطن أمه ، لكن حساب الله لعباده لا يكون على سابق علمه فيهم ، بل على ما عملوه فعلا ، فإذا عمله العبد : كتبت الملائكة عليه ما عمل ؛ فإذا كان يوم القيامة ، أنكر بعض العباد ما كتبته الملائكة ، وذاك المنافق كما مر في الحديث ، ولا يرضى شاهدا إلا من نفسه ، فيأمر الله جوارحه أن تنطق بما عمل ، ولا يستطيع هو أن ينكر شهادة جوارحه ، فتقوم الحجة البالغة لله على عبده يوم القيامة ، وينقطع عذرهم عنده .