إبراهيم الطه....العالم المربي
واحد من أبرز المربين, وأحد الذين أدوا دوراً كبيراً, وتركوا آثاراً واضحة في أجيال من الشباب, بمدينة دير الزور, شرق سورية, إنه الأستاذ الكبير, والعالم الذي يشار له بالبنان, وتعقد عليه الأنامل, علماً وفضلاً وتعليماً وإرشاداً.
(إبراهيم أحمد الطه.... أبو صفوان رحمه الله رحمة واسعة).
كان من الرواد الأوائل الذين التحقوا بالحركة الإسلامية بدير الزور؛ ويعتبر من الجيل الأول, الذين حملوا أمانة العمل الإسلامي, بالمدينة المذكورة آنفاً, ولعله من أوائل الخريجين في كلية الشريعة بدمشق.
وكان من الخطباء المبرزين الذين يهزون أعواد المنابر, ولهم صولات وجولات في هذا الميدان, وإن ينس الناس لا ينسون تلك الخطب الرائعة, التي كان يلقيها من على منبر جامع الروضة بالجبيلة, وكان للأستاذ تأثير غير عادي في سامعيه, إذ أن الرجل كان يتمتع بموهبة الإلقاء النادر, فصاحة في اللسان, وإتقاناً لفن الخطابة, إضافة إلى علمه الغزير, وفقهه الدقيق, وثقافته الواسعة.
حدثنا من عاصره في شبابه, ووصفوه بالناشط الذي لا يعرف الهدوء, والعامل الذي لا يتطرق اليأس إلى نفسه, وهو يرى واقع الأمة, ويلاحظ المحيط الذي يعيش فيه,فيندفع من أجل أمته,لعله يؤدي الذي عليه من واجب شرعي, في إطار الدعوة إلى الله, والعمل للإسلام, على أمل استئناف الحياة على أساس الإسلام, وبناء الحياة على ضوء تعاليم الشريعة الإسلامية.
من هنا, التحق في صفوف العاملين في الحركة الإسلامية, مع الرواد الأول الذين حملوا هذه الأمانة, مع الدكتور حسن هويدي -رحمه الله- والأستاذ الرباني أمين الشاكر, - رحمه الله – والدكتور عز الدين جوالة –رحمه الله – وغير هؤلاء كثير, منهم من قضى نحبه, ومنهم من ينتظر, ونسأل الله أن يحف جميع الدعاة إلى الله تعالى برحمته, وأن يكون معهم بحفظه وتأييده.
وكان من ثمار هذا الجهد, والعمل الجماعي, أن وجد جيل من العاملين للإسلام, هذا الجيل الذي فقه الدعوة, وتحرك في إطار البحث عن مجد الأمة, وتكون على أساس التصور الحركي, الذي يخطط لاستعادة المكانة الحضارية لأمة الإسلام, ولا شك ولا ريب أن الأستاذ إبراهيم –رحمه الله – واحد من هؤلاء البناة, في المحيط الذي نشأ فيه, وبقي في إطاره, إلى أن توفاه الله تعالى في ثمانينيات القرن الماضي, في حادث سير, على طريق حلب دير الزور, نسأل الله أن يكتبه في الشهداء, وأن يحشره مع الأنبياء.
عرفناه مدرساً لمادة التربية الإسلامية, بثانوية الفرات بدير الزور, وكان نعم الرجل العالم, الذي نحسبه من الصالحين- والله حسيبه– إذ كان يسخر دروسه في أوساط الشباب, للهدف الذي عاش من أجله, وأخذ عليه جل اهتمامه, وكانت دروسه في الثانوية, عبارة عن منتديات لبث الثقافة الإسلامية في صفوف الشباب, ولتربية هؤلاء الشباب على مبادئء الإسلام.
ولعل أبرز ميزات طريقة الأستاذ, ومنهجه الدعوي, ما يأتي:
- القدوة الحسنة
إذ كان نموذجاً من النماذج العملية, التي تؤثر في الناس بالحال قبل المقال, وقالوا قديماً: حال رجل في ألف رجل, خير من قال ألف رجل في رجل.
فالقدوة ضرورة حتمية للداعية إلى الله تعالى, وهي المدخل الذي لا بد منه, لنجاح الداعية, وإن الناس لا يبغضون أحداً بغضهم لمن يخالف قوله فعله, كيف لا, والله تعالى ذم هذا الصنف من الناس أيما ذم فقال: ((لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون)) وقال: ((أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)).
فالعالم العامل, هو الذي يترك أثره الطيب في صفوف الناس, وكذلك الداعية والمربي, ولا خير في الذين يخالف قولهم فعلهم,بل هم ممقوتون عند الله, مكروهون من عباده, والله تعالى شاءت إرادته أن لا تأثير للممثلين, الذين يتظاهرون بالدين والتقى, وفي الحقيقة, هم شيء آخر, والله تعالى عالم بكل شيء, ومطلع على خفايا المرء, قال تعالى: ((يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)).
الإسلام ليس فلسفة تلاك, أو أفكاراً تردد, وثقافة تنشر فقط, كلا...الإسلام علم وعمل, ثقافة وسلوك, وهو منهج شامل ينتظم شؤون الحياة كلها، ومن ثم فإن الإسلام لا يريد منا أن نكون ظاهرة صوتية, ليس إلا.
-الأخلاق الفاضلة
عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم – (إن من خياركم, أحسنكم أخلاقاً).أخرجه البخاري ومسلم.
وأخرج البخاري من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أنه قال: (إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقاً).
والأستاذ إبراهيم -رحمه الله- كان على جانب كبير من حسن الخلق, وطيب المعشر, وحلو الكلام, وتلك الابتسامة التي ما كانت تفارق محياه الجميل, يلقى الناس بوجه طلق, ولا يسمعون منه إلا الكلمة الطيبة, والتعامل الحسن, هكذا كان مع طلابه, وبهذه الصورة كان يعامل زملاءه من المدرسين, وهو كذلك مع الصغير والكبير.
وحسن الخلق هذا أكسبه حب جميع الناس واحترامهم, حتى صار محل اتفاق في عالم القبول لدى كل فئات المجتمع, حتى أولئك الذين كانوا يعادون التيار الإسلامي, كانوا يحرجون منه, لأنه بأخلاقه فرض احترامه على كل من عاشره, وكان قريباً منه, وهكذا ينبغي أن يكون الداعية إلى الله, ألفاً مألوفاً, قريباً من قلوب الناس, محبوباً عندهم.
والناس فيهم خير كثير مهما بعدوا ويحتاجون إلى من يرعاهم, ويعطف عليهم, ويعاملهم بالحسنى, وجبلت النفوس على حب من أحسن إليها, والكلمة الطيبة تكسر العود اليابس كما يقولون.
من هذا المنطلق كان الأستاذ, ينهج نهج:
- الصبر والاحتساب
فقد كان على جانب كبير من الصبر على أخلاق الناس, وكان يختلف عن كثير من الدعاة الذين من حوله, إذ كثير منهم لا يفوت موقفاً, وربما اعتبروا هذا من الحزم, وجعلوه من وسائل القوة للداعية.
درسنا عدة سنوات, فما رأيته تكلم بكلمة قاسية مع أحد من الطلاب, ولا ضرب أحداً, ولا طرد طالباً من قاعة الدراسة, ولا نادى مديراً ولا موجهاً, ليعاقب طالباً من الطلاب, رغم أن في الطلاب سفهاء, وفيهم من يسيء الأدب, إلا أن الأستاذ -رحمه الله كان الصبر رائده في مواجهة الموقف, وأحياناً يسمع الكلمة النابية وكأنه لم يسمع شيئاً, يحذر وينبه على طريقة (ما بال أقوام), فلا يواجه أحداً بما يكرهه, ولا يجرح أحداً حتى لو كان يستحق ذلك, وكنا نعجب من صبره وتحمله, وربما تشاجرنا مع الطلاب الذين يسيئون,غيرة على كرامة أستاذنا, وكان إذا سمع بهذا يمنعنا, ويقول: يا أبنائي أنا لست عاجزاً عن الرد, وأستطيع أن أطرد الطالب وأفصله, لكني لن أفعل هذا, وأرجوا أن لا تتدخلوا بالأمر, ودعوا الأمور لي.
ولسان حاله, أني أصبر عليهم, لعل الله أن يهديهم, فيعودوا إلى رشدهم, فيصلون ويصومون, ويعبدون الله, ويكونوا لبنات خير في المجتمع, وفعلاً كان هذا الأسلوب سبباً في هداية كثير منهم, بل منهم من صار من الدعاة إلى الله تعالى.
- وهذا تعبير عن نكران الذات: فإنه يترفع عن الأمور الشخصية, من أجل الصالح العام, لأن من وقف عند أموره الذاتية وغلبها على الصالح العام, لا يمكن أن يكون من أهل الدعوة, ولا يمكن أن يكون له شأن في بناء الحياة على أساس الإسلام؛ ذلك أنه يعمل لنفسه, فيدور في فلكها, يفرح لفرحها ويحزن لحزنها, والدنيا بخير إذا كان هو بخير, والعالم كله في ويل وثبور, إذا مس بأي سوء.
إن الذي لا يترفع عن سفاسف القيل والقال, سيبقى في دائرة النصرة للنفس, وهذا خطر كبير يقع فيه بعض العاملين, خطر من حيث الخلق, لأن من كان كذلك يعتبر ناقص التربية, وفاقد الشيء لا يعطيه, هذا يحتاج إلى من يربيه, لا أن يتصدر لتربية الناس, وخطر من حيث مسيرة العمل الإسلامي, إذ أن من أكبر عوائق العمل مثل هذا الصنف من العاملين, لأنه يعمل على كل المسائل لأجل شخصه الكريم, ووجود أمثال هؤلاء في صفوف العمل, يحدث إرباكاً للعمل, ومن ثم يصبح ضرهم أكثر من نفعهم, وهذا أمر مجرب وملموس.
إن الذي لا يستطيع تحمل أخلاق عامة الناس, الأولى به أن يجلس في بيته, لأنه سيضر كثيراً, يضر نفسه وإخوانه وجماعته, وأول الضر يقع على المدعوين, لأنهم بالضرورة يحتاجون إلى صبر, فإذا لم يتحقق هذا, سوف يقع الصدام بين الداعي والمدعو لأتفه الأسباب, وهنا يكمن الخلل.
- وكان (أبو صفوان), من العلماء النوادر, سعة في العلم, وتنوعاً في الثقافة, كما أنه يمتلك خاصية الإفهام, وجودة إيصال المعلومة, ذو أسلوب جذاب, رشيق العبارة سهل المعلومة, إذا تكلم شنف الآذان, وشدً السامعين, لما كان يلقي دروسه على طلابه, في الثانوية, تجد الطلاب يستمعون إليه بكلهم, ويشدهم حديثه شداً غير عادي, حتى إنك لو ألقيت إبرة لسمعت صوتها, لأن كل السامعين مشغولون بجمال ما يستمعون إليه, هذا من جانب, ولأن أسلوب وعظ الأستاذ إبراهيم -رحمه الله- كان يخلع القلوب, من جانب آخر.
ولم يكن الأستاذ يقتصر على قاعة الدرس, في التعليم والنصح والفتوى, بل كان يستثمر علاقته الطيبة بالناس, لينصح ويرشد ويوجه, بحكمته المعهودة, ولباقته المعروفة, وكان يسخر حب الناس له, للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهذا ديدن له يعرفه, القاصي والداني.
كما أنه كان يستغل بعض المناسبات ليؤدي واجبه الدعوي, وأذكر لما توفي الأستاذ خالد غدير- رحمه الله- وكان الخبر مفاجئاً للناس, ومدهشاً لطلاب ثانوية الفرات, فما كان من الأستاذ إبراهيم إلاً أن يأخذ (المكرفون) في طابور الصباح, ويلقي كلمة ترحم فيها على الأستاذ خالد, ودعا المدرسين والطلاب إلى الاتعاظ بالموت, والتوبة والعودة إلى الله, وكانت كلمة مؤثرة, خشعت لها القلوب, وذرفت منها الدموع.
-ولم يكن الأستاذ بعيداً عن الواقع, بل أستطيع القول: إنه من نوادر الفاهمين للواقع, والعارفين للملابسات التي كانت تحيط بالناس, وكان كثيراً ما يتابع الأمور أولاً بأول, فكان يدق على الوتر الحساس, ليؤدي واجبه في إطار الدعوة والعمل الإسلامي, فيضع النقاط على الحروف, ويعالج المشكلات بأسلوبه المعهود, ومن ضمن الأمور التي يتابعها, شباب الحركة الإسلامية من الطلاب, فيخصهم برعايته, ويحثهم على الثبات, ويشجعهم على العمل الدعوي, ومن وقع في مشكلة لا يتركه إلا بعد أن يحلها له, خصوصاً وإن الشباب الملتزم كان يعاني من بعض الحاقدين؛ وكان الأستاذ يستثمر علاقاته الطيبة, وجاهه العريض, لخدمة إخوانه من الطلبة الدعاة.
رحمك الله يا أبا صفوان رحمة واسعة, وأجزل لك المثوبة, وحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ـــــــــــــــــ