الشيخ / محمد بوسليماني الشهيد الممزق ذو القبرين
بداية لا بد من الاعتراف أن الكتابة عن الشخصيات أمثال الشيخ محمد بوسليماني تعترضه العديد من الصعوبات منها ما يتعلق بصعوبة أستيفاء حق الرجل وأخرى تخص صعوبة الألمام بجوانب شخصيته ولهذا فإن الكتابة عن الشيخ محمد بوسلماني وأمثاله من الشخصيات مهما حاولت الاستيعاب والإحاطة، فإنها تبقى في حاجة إلى استكمال واستمرارية في تناول جوانب شخصيته المتسمة بالثراء والتنوع والنهل من عطاءاتها الفكرية والتربوية والدعوية والسياسية.
فرجل كالشيخ محد يوسليماني لا تقاس عطاءاتهم وإنجازاتهم بعدد سنوات عمرهم فإذا قيس عمره الفكري والتربوي والتنظيمي والدعوي مع عمره الزمني يكاد لا يحتويه، مثله في ذلك أمثال رفيق دربه الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله وغيره من العلماء والمصلحين المعاصرين والقدامى أمثال شيخ الإسلام بن تيمية والإمام النووي وغيرهم..
والعامل الآخر هو أنك تجد البعض من هؤلاء قليلي الإنتاج في التأليف وكتابة البحوث وإصدار الكتب بعد ان شغلوا بتأليف الرجال كما ورد عن البعض منهم، فأنت عندما تقف أمامه –الشيخ محمد بوسليماني- أو تحتك به أو تستمع إليه يخيل إليك وكأنك أمام كتاب في مختلف العلوم وصنوف المعرفة من أدب وتربية وفقه وأصول ودعوة وسياسة تتوالى صفحاته لتمنحك من كل ذلك شيئا من العلم والحكمة والتوجيه والأخلاق وبعد النظر في صور وأشكال حية وفي قالب من القدوة تستأثرك المواقف والإيحاءات قبل الأقوال والخطابات وتأخذ بك المعاني قبل الألفاظ والتلقين، بل أكثر من ذلك تجد نفسك أمام كل مواصفات القائد والمصلح الذي استأثرت به قضيته وطوع نفسه لها فعاش بها ولها وكرّس حياته في سبيلها، لهذا فكل من يقترب منه أو يلاقيه أو يحتك به فإن أكثر ما يأخذ عنه هو كيف يرتبط بالفكرة والمنهج وكيف يعيش للقضية فدونما عناء كبير في السعي لتوصيلها تستشفها منه واضحة لا لبس فيها أو غموض، فأنت حتى وإن لم تأخذ عنه الفكرة التي يعتقدها ويؤمن بها فإنك تأخذ عنه كيفية الارتباط بالفكرة وحتى وإن لم تأخذ عنه القضية فإنك تأخذ عنه كيفية العيش للقضية، ولعل أروع مثل والنموذج الحي الذي جسده هو عندما أبى كل شيء إلا الاستشهاد في سبيل هذه الفكرة رغم الإغراءات والإكراهات لما اختطف صبيحة يوم الجمعة 26 نوفمبر 1993 من طرف عناصر مسلحة إرهابية وظلت تمارس عليه شتى أنواع الإكراهات وصنوف التعذيب من أجل انتزاع منه رأي أو موقف يسند مسلكهم المنحرف ويوافق أعمالهام الشنعية فأبى إلا التمسك بالحق الذي لا ينحني أمام الباطل مهما تطاول فكان موقفه هذا إعلان وإعلاء لصرح مدرسة الاعتدال والحوار والسلم والمصالحة الوطنية والمشاركة بعد أن تأسست تفكيرا وتنظيرا، فالشهيد محمد بوسليماني بصنيعه هذا ذهب ضحية مناداته بالسلم والحوار من أجل المصالحة الوطنية ودفع حياته ثمنا لفكرته واعتداله فكان بحق داعية حوار وسط أطراف على حدي نقيض لا تؤمن إلا بالاستئصال والتطرف.
فالرجل طوال حياته اعتمد مبدأ الحوار لنشر الوعي وتصحيح المفاهيم وربط الجسور مع المخالفين والخصوم ومع جميع الأطياف لإيجاد صيغة للتوافق والالتقاء على القواسم المشتركة بما يحقق جزائر الجميع ويخدم المصلحة العليا للوطن والشعب ومن أجل كسر حواجز الخوف والهواجس والشبهات الوهمية والفعلية والمفتعلة بين مختلف التيارات السياسية والفكرية في المجتمع.
إلا أن الرجل الذي اغتالوه لاغتيال فكرته بعد أن أعوزتهم الحجة لم يتحقق مقصدهم المشين، فالرجل أصبح شهيدا المبدأ وفكرته ما فتئت تزداد إيناعا وتألقا، فقد أينعت شجرة السلم والمصالحة الوطنية التي سقاها الشهيد محمد بوسليماني بدماء زكية طاهرة وأينعت ليستظل الجميع تحت ظلالها الوارفة، وذهب إليها الجميع وانتصرت مدرسة الحوار والمصالحة الوطنية وصارت شعار الجميع وخطاب الجميع وتنادى إليها الجيمع.
وها هي تمر اثني عشر سنة من اغتيال الشهيد محمد بوسليماني الرجل القضية ورمز الشهادة على الثبات والمبدأ وقد تكرست مدرسة الاعتدال والحوار والسلم والائتلاف والمصالحة: الرجل الذي فقدت فيه الجزائر وحركة مجتمع السلم وجمعية الإرشاد والإصلاح، رمز من الرموز ونموذج من النماذج النادرة، الرجل الذي يعرفه كل جانب من جوانب المجتمع الجزائري ويشهد عليه كل مسلك من مسالك الخير والإصلاح، الرجل الذي تألم بحق على معاناة وأرواح الجزائريين لما لحقهم من أذى من الأيادي الآثمة فكان أكثرهم فداء وتضحية، الرجل الذي ظل دأبه طوال حياته إنشاء المشاريع الخيرية والاجتماعية والثقافية (من مراكز مهنية، ومكتبات ومدارس قرآنية ورياض الأطفال.. وغيرها).
لكن حسبه في ذلك المنهج الذي تركه والجيل الذي رباه توجيها ورعاية.
المولد والنشأة
ولد الشهيد محمد بوسليماني في 05 ماي 1941 م بحي الدردارة بولاية البليدة بالجزائر من أسرة محافظة ومجاهدة.
حفظ القرآن الكريم وتلقى تعليمه الأول بمدرسة الإرشاد التي أسستها الحركة الوطنية وعلى طاولات الدروس جمعته الأقدار مع رفيق دريه الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله.
مع اندلاع الثورة التحريرية انخرط فيها، وفي سنة 1957 كان الرجل مسؤولا عن مجموعة من الفدائيين وكان بيته نقطة التقاء وموئلا للمجاهدين كما كان يشرف على بعض الشباب انتقاء وتنظيما وتجنيدا لصالح الثورة وتوعية بالقضية الوطنية، وكان أيضا يساهم في حمل المؤونة وإرسالها إلى المجاهدين ونقل الأدوية والألبسة وتوزيع المنشورات.
بعد الاستقلال واصل الرجل مسيرة العلم والتربية والإصلاح واشتغل في التعليم منذ بداية الاستقلال مدرسا ومديرا.
وفي سنة 1968 التحق بالجامعة المركزية بالعاصمة وانتسب إلى كلية الآداب (قسم المدرسة العليا للأساتذة)، وبعد نجاحه في مسابقة التأهيل الجامعي وتخرج بشهادة الليسانس في اللغة العربية وآدابها سنة 1972 م، ليعين بعدها أستاذا بثانوية الفتح بولاية البليدة كما اشتغل كرئيسا للجنة الثقافية التابعة للولاية.
عارض النظام السياسي سنة 1976 في تبنيه للنظام الاشتراكي وكلفه ذلك الاعتقال مع الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله.
وفي جوان 1979 أطلق سراحه فواصل العمل التربوي والدعوي بالمساجد والمدارس والجامعات. شارك وحاضر في عدة ملتقيات وطنية ودولية.
ساهم في تهدئة الأوضاع المتوترة في أحداث أكتوبر 1988 ونبه إلى مخاطر الفتنة، كما كان أحد المساهمين في إنشاء رابطة الدعوة الإسلامية.
وفي سنة 1993 زار مع وفد له البوسنة والهرسك ودامت زيارته إحدى عشر يوما زار فيها اللاجئين كما زار المستضعفين المضطهدين (بموستار) رغم صعوبة الأوضاع وخطورتها.
الشهيد بوسليماني والعمل السياسي
بحكم مشاركته في الثورة المباركة عيّن بعد الاستقلال على رأس اللجنة الثقافية بقسمة جبهة التحرير الوطني بالبليدة، ثم أبعد عن الإشراف عليها نظرا لنشاطه الثقافي البعيد عن الخط الأيديولوجي الاشتراكي. عارض فرض ميثاق 1976 م على الشعب الجزائري المسلم الذي كان يرى فيه مخالفة لبيان أول نوفمبر الذي ينص على مشروع مجتمع ديمقراطي في إطار المبادئ الإسلامية.
• - حكم عليه سنة 1976 م بثلاث سنوات سجنا مع ثلة من إخوانه في قضية حركة الموحدين التي كانت تدعو إلى التوجه الإسلامي وتعارض المد الاشتراكي تحت قيادة الشيخ محفوظ نحناح حفظه الله.
• - أمضى مع الشيخ نحناح وجماعة من الدعاة بيانا بعنوان: إلى أين يا بومدين وكان الإمضاء باسم الموحّدين. اشتمل على عشرة نقاط أهمها:
• - لا للعفوية السياسية والتشريعية والقضائية والتنفيذية.
• - نعم للإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة.
• - نعم للإسلام شورى وعدالة وحدة وأخوة.
فواصل نشاطه في سجون البرواقية وبوفاريك فهدى الله على يديه الكثير من المجرمين بشهادة إدارة تلك السجون.
• - شارك في كتابة بيان تجمع الجامعة المركزية سنة 1982 م.
• - تابع أحداث أكتوبر 1988 بحسن المسلم الواعي، فندّد بأساليب الحقرة وإزهاق أرواح الجزائريين ونبّه إلى مخاطر الفتنة الداخلية وشارك عبر المنابر والجولات في لم شمل الجزائريين.
• - أحد الفاعلين الأساسين في المسيرة المليونية النسوية للدفاع عن أصالة قانون الأسرة في نهاية الثمنينات.
• - ساهم في كثير من الحوارات السياسية مع الأحزاب والفعاليات والسلطة أثناء الأزمة السياسية الجزائرية وقبلها. كان أحد مؤسسي حركة المجتمع الإسلامي (حماس) سنة 1990 م وهو أول نائب لرئيسها.
• - اجتهد مع إخوانه في جمع الجزائريين وتحرك عبر ربوع الوطن وخارجه يدعو إلى التفاهم والتلاقي ويحذر من الفرقة والتضاد.
الشهيد بوسليماني وجمعية الارشاد والاصلاح الوطنية
ترأس جمعية الإرشاد والإصلاح الوطنية سنة 1991 م، فشهدت تحت إشرافه تجسيدا لمشاريعها القيام بنشاطات تربوية فتحت فيها الجمعية العشرات من روضات الأطفال، وكتاتيب تعليم القرآن الكريم، والورشات المهنية.
كما قامت الجمعية بالعناية باليتامى وإطعام الصائمين وكفالة المحتاجين. فتح مكاتبا وفروعا للجمعية مست جميع ولايات الوطن.
وكان دائم التنقل والزيارة للقائمين عليها مشجعا لهم وحاثا على بذل أقصى الجهود لتحقيق مشاريعها الحضارية.
كما دعا باسم الجمعية جميع أبناء الجزائر إلى الحوار الهادئ، ونبذ التطرف الفكري والعنف بجميع أشكاله وذلك منذ اول بيان صدر عن الجمعية.
اهتم الشهيد بالشباب في التربية والتوجيه، فأقام المخيمات الصيفية التي تهدف إلى الترفيه والتكوين والتثقيف، كما كان بيته قبلة للعديد منهم طلبا للاستشارة في أمور الدين والحياة.
ساهم بنشاطه الخيري في تزويج الشباب للقضاء على العزوبية والعنوسة لما ينجر عنهما من أثار سلبية على المجتمع وبنيته.
وضع مشاريع عديدة ضمن النشاط المستقبلي للجمعية لتساهم في حل مشاكل الشباب في الجانب الاجتماعي والاقتصادي.
حارب الآفات الاجتماعية عامة، والآفات التي تفتك بالشباب خاصة كالخمر والمخدرات.
شجّع النشاطات الرياضية والأعمال الفنية الهادفة وكرم بعضا من أهلها. بذل جهدا كبيرا في توجيه الطلبة والطالبات والعناية بهم.
اهتمام الشهيد بوسليماني بالجزائر وأبنائها لم يمنعه من المشاركة الوجدانية والميدانية لأبناء الأمة العربية والإسلامية في قضاياها المصيرية، وعلى رأسها قضية فلسطين التي كان يعتبرها القضية العقيدية والمركزية لأمة العرب والمسلمين.
كما ساهم في تقديم المساعدة للشعب العراقي وتعاطف مع الكويت في محنتها، وزار المسلمين في البوسنة والهرسك في أشد أزمتها.
كما اهتم بالأقليات الإسلامية في بلاد الغرب فكان يزورها ويدعمها لتتشبث بهويتها ودينها.
الاختطاف والاستشهاد
كان الشهيد محمد بوسليماني شديد التأثر بما وقع للجزائر في محنتها الدموية، فلم يترك مجلسا إلا ودعا فيه إلى الصلح بين أبناء الجزائر ، مقتنعا أن الخلاف بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد لا يحل بالعنف، بل بالحوار والمحبة والتراحم، إلا أن هذا النهج لم يعجب بعض مخالفيه من الغلاة، فلم يراعوا في الرجل جهاده ولا إمامته ولا ريادته الدعوية ولا رمزيته الوطنية والعالمية، فاقتحموا عليه منزله المتواضع فجر يوم الجمعة 26 نوفمبر 1993 م بعد أن صلى الصبح وجلس مرتلا القرآن الكريم والمصحف بين يديه، فأفزعوا أهل بيته الذي طالما كان أيام الثورة التحريرية مأوى للمجاهدين، وأيام الاستقلال مثابة للدعاة والعلماء الخيرين، فاختطفوه وأرادوا منه فتوى بجواز قتل المخالفين، وما علموا أنه ليس هذا الرجل الذي يشتري الدنيا بالدين، فكان له من الله الثبات على موقفه من حرمة قتل المسلم - وهذا من المعلوم بالضرورة من الدين - فكان منهم الغدر والقتل بالسكين.
اكتشفت قوات الأمن جثته، وتأكد الأمر بعد أن عاينها وفد من عائلته والجمعية يوم الجمعة 28 جانفي 1994 م، ثم نقل جثمانه إلى مقبرة الدردارة بالبليدة يوم الأحد 30 جانفي 1994 م.
أخريات الشهيد
• - آخر ما قاله عند خروجه من بيته «إذا لم أرجع فأنا شهيد مثل أبي وأخي أحمد».
• - آخر ما قاله عند اتصاله هاتفيا بالجماعة «الحمد لله يكون أحيانا مع الشكر وأحيانا مع الصبر».
• - آخر عهده بمقر الجمعية الخميس 25 نوفمبر 1993.
وكان آخر ما كتبه كوصية :"اعتمدوا على الله وثقوا فيه فلا تخافوا غيره ولا ترهبوا سواه أدوا الفرائض، واجتنبوا نواهيه، كونوا أقوياء بأخلاقكم، أعزاء بما وهب الله لكم من عزة المؤمنين، كونوا عاملين واتقوا الجدل".
من أقوال الشهيد
• - كل مسلم يعيش فوق هذه الارض هو من أجل رسالة ويتحرك حاملا أمانة ولن يستطيع تبليغ هذه الرسالة لأصحابها إلا إذا عاش حرقة الإسلام الصحيح ولا يمكن أن يقوى على هذه الأمانة إلا إذا حركته حرقته على الدعوة برصيد قوي من التوكل على الله.
• - الدعوة إلى الله سائرة والدعوة إلى كتاب الله تتبع طريقها لأنها لا ترتبط بالأشخاص ولا بالأفراد وهؤلاء الدعاة ما هم إلا وسائل لدفع دعوة الله.
• - كونوا مع الله يكن معكم، واتحدوا يا إخوة الإيمان، إن العدو لا يتوقف عن مطاردتكم ما دمتم متمسكين بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
• - إن خطتنا تسير على المنهاج الذي مات عليه شهداء الجزائر.
• - تحابوا فيما بينكم واحرصوا كل الحرص على رابطتكم، فهو سر قوتكم. كونوا كالجسد الواحد إذا ابتعد عنك أخوك تخشى كأن جزءا عزيزا فقد منك.
• - إن للشعب الجزائري هويته العربية والإسلامية وهو يشق طريقه ليرتبط بمصدر المنبع والمنطلق "إقرأ" بغار حراء غير أن أعداءه بالأصالة والعمالة خلطوا بين أبناء باديس وأبناء باريس بل اختلطت عليهم ثقافة إليزي مع ثقافة الإليزي.