لطالما كان مارتن سكورسيزي مصدر الهام لهوليوود والعالم اجمع ، حتى اعتبره البعض ساحر يدخل بافلامه الى عمق النفس البشرية ويعبث بها كما يشاء ، ولم يكن القدر الغريب الذي يبعده عن اجواء الاوسكار دائما الا كشرارة تشعل به لهيب الابداع ، فكان في كل مرة ياتي لنا بصحة فلم افضل من الذي سبقه حتى اصبح منافسا حقيقيا " لنفسه " وطغت افلامه على الشاشات كعنوان للتفوق والنجاح والتعبير عن كل ما انتجته فنون السينما ، وفي العام 2002 كنا على موعد مع احدى علامات السينما الخالدة والتي شكلت قوة دافعة اضائت نور الفن السابع في كل انحاء اميركا ... " عصابات نيويورك ".
يفتتح الفلم احداثه في العام 1846 وبالتحديد في منطقة " فايف بوينتس " في نيويورك ، حيث يعرض لنا الطفل الصغير " امستردام " بصحبة ابيه القسيس " فالون " والذي سيقود معركة بين عصابة " الارانب الميتة "والتي تجمع المهاجرين الاجانب الى نيويرك ، والسكان الاصليين بقيادة " بيل الجزار "، و تنتهي المعركة بقتل القسيس فالون وارسال امستردام الى ميتم للاطفال ..
رغم قصر المشهد السابق الا انه من اكثر مشاهد الفلم جمالا ، فقد اظهر وبسرعة الشخصية الحقيقية لعنصري الفلم الاساسيين ، القسيس فالون ، وهو رجل كل ما اراده هو العيش مع ابنه بسلام لم يتحقق ، فابى الا ان يواجه الظلم بنفسه وبمساعدة من هم مثله او بالاحرى " شعبه الذين احبهم " ، ثم هناك بيل الجزار ، شخصية همجية بعيدة عن كل معايير الانسانية ولكنها تعرف معنى الهيبة والاحترام ، فلم يرضى الا ان يموت القسيس ويدفن بشكل شريف وبكامل كرامته ...
يقفز الفلم الان للعام 1862 ، حيز يتحول امستردام من طفل الى شاب ، ويقرر العودة الى بلده بصحبة انتقامه الذي يخفيه ، و في هذا الوقت كانت نيويورك تعيش في كنف الم حقيقي بدا من السوس الذي نخر عصبها وامتد الى كبار اعضائها ليعلن تاثيره عليهم ، والى جانب هذا فقد كانت الحرب الاهلية في اوجها وكان السعي من اجل التجنيد بارزا جدا ، وقد اضطر مظم السكان للالتحاق به بسبب العدم الذي كانو يعانونه ، وبالرغم من هذا فقد كانت الهجرات الى نيويروك في اوجها لانها " ارض الخيرات " كما يقال ولكنها في الحقيقة " ارض الجحيم " ... القوي ياكل الضعيف وينهشه ولا احد يساله ، والغني يهمل الفقير ويبعده ، وكل منهم يسعى الى كسب عيشه بطريقته التي يراها مناسبة ، بغض النظر عن طبيعتها ، اما الباقون فيتمنون الموت .
هذا هو ما سنكتفي به من قصة الفلم لانه الاهم ..
الاسقاط التاريخي :
ان ما قدمه سكورسيزي في فلمه هذا حتى هذه اللحظة هو ليس ما نريده ولكنه بالتاكيد ما اراد هو ، ففي هذه المشاهد قد اعاد بناء تاريخ كامل وبكل قوة وواقعية ولم يكتفي بذلك بل خلق كل الاجواء التي تظهر تلك الحقبة السوداء بالمظهر الذي كانت عليه وقد نجح في ذلك باجماع كل النقاد و المشاهدين ..
لقد تم الاعتماد على بناء كل هذه المباني والاجواء في احدى استديوهات روما - حيث واجه المخرج مشاكل عديدة في الولايات المتحدة - ، وقد اعتمد على ذلك بادخال كل عناصر الظلم والاضطهاد ضد المهاجرين و " الدخلاء " على نيويورك ، ولو عدنا بالتاريخ الى تلك الفترة العقيمة فستجد اكبر تشابه مع ما عرضه لنا الفلم حتى في اسماء العصابات ، فقد نشبت في " فايف بوينتس " في نيويروك حرب بين السكان الاصليين و عصابة الارانب الميتة ولكن الاختلاف كان في التاريخ حيث كانت تلك المعركة في الفترة ما بين 1957 - 1958 ، اما شخصية " بيل الجزار " فقد تم اقتباسها من شخصية " بيل بول " وهو ملاكم شرس وجزار كان في عصابة نيويورك ، كما انه كان من اكبر اعداء السياسة الامريكية التي تسمح للغرباء " بتلويث " العرق الاصلي ، وقد تعرض للاغتيال بنفس الطريقة التي كاد " بيل الجزار " ان يقتل بالفلم ، اما باقي الاضافات على الشخصية فقد كانت من خيال المخرج .
ومن احدى القضايا التاريخية التي اهتم الفلم بعضرها هو الظلم الذي كان يعانيه السكان السود ، وقد تمثلت بشكل كبير في شخصية " جيمي سبويل " والذي كان محط ازعاج من كثير من السكان ، وقد كانت الحقيقة التاريخية تشير الى ان السود في تلك الفترة قد عوملوا بشكل وحشي من قبل الجميع ، وكانو يتعرضون للاهانات الكبيرة لانهم " يلوثون العرق الابيض " كما يقال ، اما بالنسبة للصينيين فحقيقة الامر ان نيويروك جميعها كان تحتوي على 25 فردا صينيا من رجل وامراة وطفل ، وقد كان لهؤلاء نظرة مختلفة عن الجميع ، حيث كانو يبتعدون دائما عن مجرى الاحداث الرئيسية وقد تم الاعتناء باظهار هذا في الفلم ..
كما ان هناك متحف " بيريوم " والذي يعرض الفلم تعرضه للحرق ابان الاضطرابات الداخلية ، ولكن في الواقع فقد نجى المتحف من تلك الاضطرابات ، وبعد سنتين من انتهائها تم حرقه عمدا ، ثم اعيد افتتاحه مرة اخرى .
ومن اجمل ما تم اعادة تجسيده هو مشهد الحرب النهائية ، والذي يعد اروع واجمل مشاهد الفلم التاريخية الحية ، وقد تم الاعتناء بشكل كامل بكل تفاصيله من اول جندي لاخر ثائر لتظهر المعركة تماما كما كانت ، وما سبق كان من اكبر التحديات التي واجهها سكورسيزي على الاطلاق ، ان لم تكن هي الاكبر .
الاخراج :
لطالما شكل العبقري مارتن سكوريزي محور جدل سينمائي كبير ، ليس بسب افلامه فقط بل بسبب نظرته السينمائية والاخراجية الفريدة ، فقد اعطانا هذا العبقري من الفن والمستوى الراقي من الافلام ما لم يفعله سوى قليل من المخرجين ، وجعل بذلك من نفسه احد " ربابنة " العصر الذهبي ، فبالرغم من ان سكورسيزي قد دخل في عالم الاخراج في سن مبكرة نسبيا الا ان صنع لنفسه مجدا خاصا بداه بمعالجة اجتماعية ونقدية للمجتع الامريكي ، حيث وجهت افلامه ضربة حقيقية للسياسة المهملة التي تركت الشعب يغرق في كل اشكال الضعف والانحلال الخلقي ، و لم يهمل في افلامه صغيرة ولا كبيرة مما يخفى على معظم دارسي النهج الاجتماعي-الامريكي ، وفي هذا الفلم لم يبتعد سكورسيزي عن مبداه هذا بل ايده و ارساه فعرض السطح الحقيقي الذي بنيت عليه الولايات المتحدة التي بالغت بالاعتداد بنفسها بينما هي في الحقيقة كانت مجرد غابة ظلماء ، وقد اختار سكورسيزي هذه الفترة بالتحديد لانها اكثر فترة غابت عن نظر العالم حيث ان المتتبع للتاريخ الامريكي لن يلقي بالا سوى للحرب الاهلية والظلم ضد العرق الاسود ، و قد ابدع بهذا بكل ما للكملة من معنى ، فلم يدعنا نرى الفلم فقط بل جعلنا ندخل فيه بكل مشاعرنا واحاسيسنا ، وان كان اسلوب هذا الاخراج يذكرك بشيء فهو الاسلوب الذي تفنن فيه المخرج القدير " بال اوغست " في فلم " البؤساء " .. الاعتناء بكافة التفاصيل ، التوجيه الدقيق لعين الكاميرا ، احتواء عناصر المشهد ، اختيار التوقيت المناسب ، التتابع المبهر للاحداث ، وغيرها الكثير مما يدفعنا للاعتبار بان عدم فوزه بالاوسكار عن هذا الفلم هو واحد من اكثر لحظات السينما ظلما .
الموسيقى التصويرية :
ان احد ابرز ما سنذكره من الفلم هو موسيقاه الرائعة التي كانت موطن اعجاب بدرجة لا تقل عن الفلم نفسه ، وقد نقشت هذه الروائع الموسيقية بانامل المبدع " هوارد شور " وهومن كبار واضعي الموسيقى التصويرية في هوليوود كلها ، وقد اظهر في هذا الفلم تفننا لا مثيل له في ادخال هذه الموسيقى وربطها بشكل دقيق مع المشاهد حتى رشحت موسيقى هذا الفلم الى العديد من الجوائز ومن ضمنها جائزة الاوسكار لافضل موسيقى تصويرية .
الاداء :
دانييل لويس : واحد من ملوك السينما الامريكية و ابرز شخصية في هذا الفلم على الاطلاق واعتقد انه سيكون الوحيد الذي سنذكره بعد مشاهدة هذه الرائعة بادائه لدور " بيل الجزار " ، والذي اقل ما يقال عنه انه رائع ، رائع جدا . كثير منا عرف لويس من افلامه القديمة الخالدة امثال " الموهيكان الاخير " ، " قدمي اليسرى " و " باسم الاب " وجميعها افلام من ارقى المستويات وفي كل منها كان ياتي لنا بدور اجمل من سابقه فقد كان يجسد المشاهد والشخصيات بكل عفوية و اندماج وقدرة عالية على التحكم في تعابير وجهه بشكل قل ما تجد له مثيل ، ولا اعتقد ان احدا سيستطيع القيام بافضل مما قام به هو ، " بيل الجزار " شخص بعيد عن كل ما للبشرية والانسانية من صلة ، لا يعرف الا ما يقنع نفسه به ، لكنه عرف كيف يصنع لنفسه المجد والاحترام والتوقير ، رجل لا يحب ان يخدعه احد او ان يدنس احد ما يعتبره هو " وطنه وحده " ، وفي نفس الوقت يريد الحفاظ على ما صنعه والده الذي كان يقاوم من اجل الحصول على التحرير ، ولكن كلامه كان لا يدل على شخص جاهل بل كان يصدر عن رجل يعرف كل ما يدور حوله ويدرك مواطن الخطا من الصواب ، وارى انها اصعب شخصية تم تاديتها في الفلم كله .
ونسيت ان اقول بان دانيل لويس هو ايرلندي الاصل !!
ليوناردو ديكابريو : فقد كان هذا الفلم هو التعاون الاول بين ديكابريو وسكورسيزي والذي مهد لسلسلة مشتركة ناجحة جدا من الافلام الرائعة ، وفي هذا الفلم اظهر ديكابريو ابداع كبيرا وبذل كل ما يستطيع ليكون احد شخصيات الفلم الرئيسية البارزة ، وقد نجح كثيرا في ذلك وبالرغم من ان مستوى ادائه كان يقل عن لويس الا انه كان يفي بالغرض ، ادى ديكابريو في الفلم شخصية امستردام ، الشاب الذي يسعى للانتقام لمقتل والده على يد " بيل الجزار " وفي نفس الوقت يسعى لتحرير البلد من قبضته ، وقد اكمل بذلك المشوار الذي بداه والده ..
تاثير الفلم على الساحة :
نال الفلم عند نزوله نقدا واسعا جدا بدا بلاعتراض الشديد على مشهد النهاية والذي تم فيه عرض برجي التجارة العالميين والذان كانا قد دمرا قبل عرض الفلم بسنة واحدة ، ولكن سكورسيزي رد على هذه الانتقادات بقوله : ان الفلم هو عن من بنو المدينة وليس عن من دمروها .. وانتقلت هذه الانتقادات بعدها الى الفلم نفسه والذي اعتبره نقاد اخرون فلما ضعيفا وبعيدا عن مستوى افلام سكورسيزي ، وقد رد " روجر ايبرت " وهو ناقد سينمائي كبير على هذا بقوله ان الفلم يعتلي واجهة افلام السنة ويعتبر نصرا حقيقيا ولكنه ليس افضل ما اخرجه سكورسيزي ، وبنظر هؤلاء النقاد ايضا ان الفلم بعيد عن العمق الانساني ويعيبه الطول الابتعاد الكبير عن مجرى الاحداث ، ولكن المخرج " اروين وينكلر " قد رد عليهم بقوة حين قال بانه ما من مخرج في القرن الواحد والعشرين يستطيع فعل ما قام به سكورسزي في فلمه هذا . وما دون ذلك فقد لقي الفلم استحسانا واسعا عالميا وبقيت الصحف والمجلات تتكلم عنه لفترة ليست بالقصيرة . اما على المستوى السياسي ، فقد اعترض كثير من السياسيين وكبار المدينة على عرض الفلم واعتبروه اهانة حقيقية موجهة ، بل وقاموا بمنع عرض الفلم في كثير من الصالات ، حتى اضطر سكورسيزي الى حذف العديد من اللقطات التي كانت تظهر حقائق تاريخية مدمرة ، واكتفى بعرض ما رايناه .
الجوائز التي حصل عليها الفلم :
فاز الفلم بجائزتي " غلودون غلوب " لافضل مخرج وافضل اغنية سينمائية ، كما فاز الممثل دانيل لويس بجائزة " نقابة الممثلين " و جائزة " الاكاديمية البريطانية " كافضل ممثل في دور رئيسي . كما ترشح الفلم الى 10 جوائز اوسكار منها افضل فلم وافضل مخرج ، ولكنه خسرها جميعا وذهبت معظم الترشيحات الى الفلم الغنائي " شيكاغو " .
بقي ان نقول بان هذا الفلم ليس معجزة سينمائية فريدة او مميزة ، ولكنه فلم عن الحقيقة الصعبة وعن التاريخ الذي يصنع المعجزات ويبني الحضارات