نريد غضبا للأقصى حقيقيا.. وليس إعلاميا
2007-02-14 07:32:52
فهممي هويدي
الشرق الأوسط اللندنية
حين وقعت على صورة السيدة المسنة التي وقفت وسط الشارع المؤدي الى الحرم القدسي، وراحت تصيح وتصرخ محتجة على الجريمة التي ترتكبها اسرائيل بحق المسجد الاقصى، انتابني شعور بالخجل والخزي، اذ رأيت في الصورة التي نشرتها «الشرق الأوسط» على ستة أعمدة صبيحة الأحد الماضي (11/2) تعبيرا يجسد الواقع العربي الراهن. فقد كانت السيدة رمزا للشعب الفلسطيني الذي بات يواجه الآن وحيدا الهجمة الاسرائيلية الشرسة، التي لم تكتف بابتلاع الارض وتشريد اهلها، وانما لم تتورع عن تدمير المؤسسات وهتك حرماتها، في ممارسة للعربدة لا حدود لها.
ظهر الجنود الاسرائيليون في الصورة وقد اعترضوا الطريق، ووقفوا يرقبون مشاهد السيدة عن بعد، في حين أقاموا حاجزا جانبيا تجمع وراءه بعض الفلسطينيين الذين منعوا من الاقتراب من المسجد الاقصى. أما السيدة فقد رفعت يدها واشارت بإصبعها الى السماء، كأن لسان حالها يقول: ليس لها من دون الله كاشفة.
رغم ان الصورة كانت صامتة، الا انني سمعت صوت الاحتجاج والغضب مدويا منها، وظل ذلك الصوت يتردد على مسامعي طول الوقت، الأمر الذي ضاعف من شعوري بالخجل والخزي، لأنني في كل مرة كنت انتبه الى اننا في العالم العربي والاسلامي، قصرنا في حق الشعب الفلسطيني، وفي حق المسجد الأقصى، ولم نفعل ما ينبغي ان يفعله أهل الغيرة والمروءة، دفاعا عن عرض اخوانهم وكرامة مقدساتهم.
في عام 1969 حين اقدم احد الصهاينة على محاولة إحراق المسجد الأقصى، وأشعل النار في منبر المسجد. اهتز العالم الاسلامي من اقصاه الى اقصاه، وتنادى زعماؤه لتدارك الموقف في لقاء عاجل، الامر الذي أدى إلى اجتماع رؤساء الدول الاسلامية في الرباط، واسفر عن انشاء منظمة المؤتمر الاسلامي، وتشكيل لجنة خاصة للقدس تولت المملكة المغربية رئاستها.
كان الصدى الذي حدث وقتذاك من اجراءات زمن الكبرياء والنخوة، حين كان العالم العربي يتمتع ببعض العافية، مكنته من ان ينتفض رافعا صوت الغضب، وان يشهر «لاءاته» في مواجهة قوى الاستكبار والهيمنة الامريكية والاسرائيلية، وألا يخجل من الحديث عن الصمود والتصدي. وهي الصفحة التي طويت حين دخلنا زمن الجزر بعد المد، الذي شاهدنا فيه تجليات الانصياع لقوى الهيمنة والتطبيع مع العدو، بما استصحبته من ترويج لمقولات ادعت ان 99% من الأوراق في يد واشنطن، وأخرى اغرت البعض برفع شعار نحن اولا، الذي كان يترجم حالة انفصال الوطن عن الأمة، ومن ثم الانسحاب من تحمل مسؤوليات واستحقاقات الدفاع عن المصير المشترك الذي تشكل القضية الفلسطينية محوره. باعتبار انها قضية أمن قومي للعرب جميعا بقدر ما انها قضية وجود للشعب الفلسطيني.
تتضاعف المرارة أي الشعور بالخجل والخزي، حين يقارن المرء بين صدى العدوان على المسجد الاقصى، بالدوي الذي سمع في انحاء العالم حين لجأت حركة طالبان عام 2001 الى هدم تمثالي بوذا في بلدة «باميان» الافغانية.
لقد ارتفعت اصوات المثقفين في كل مكان منددة بما فعلته حكومة طالبان، وتحركت المنظمات الاهلية ومنظمة الامم المتحدة ممثلة في اليونسكو، داعية الى وقف ذلك العدوان. ودعا البعض الى اعتبار ما جرى «جريمة ضد الانسانية»، تبرر التدخل الدولي، لأن التمثالين يعدان من كنوز التراث الانساني، التي تهم البشرية جمعاء، الأمر الذي يوجب تدخل المجتمع الدولي لحمايتهما. وبني هذا الرأي قياسا على مبدأ التدخل للاعتبارات «الانسانية» الذي اعتمدته الدول الكبرى لتسويغ تدخلها في بعض النزاعات الاقليمية، متجاوزة عن مسألة السيادة الوطنية لبعض الأقطار الافريقية.
باختصار، فإن العالم بأسره هب للدفاع عن تمثالي بوذا وقتذاك. ولكن الضمير العالمي لم يحركه العدوان على اهم رمز مقدس في التاريخ الاسلامي بعد الكعبة والمسجد النبوي، وكل الذين اقاموا الدنيا ولم يقعدوها، وملأوا العالم صخبا وضجيجا وغضبا لأن حكومة طالبان شوهت تمثالي بوذا. هؤلاء جميعا التزموا الصمت ازاء ما يجري للمسجد الأقصى. ووقفوا يتفرجون على مشروع هدمه، ببلاهة منقطعة النظير.
ان آلة الحفر والتدمير الاسرائيلية تعمل في محيط المسجد الاقصى منذ احتلت اسرائيل ما تبقى من فلسطين عام 1967، واصبحت القدس الشرقية من ضحايا الهزيمة التي حلت بالعرب آنذاك، وكانت اول خطوة اقدمت عليها اسرائيل بعد الاحتلال هى تهجير اكثر من الف فلسطيني من حارة المغاربة في البلدة القديمة (التي تدخل في نطاق القدس الشرقية) وهدم منازلهم. وذلك لخلق مساحة ممتدة امام حائط البراق (الحائط العربي)، واطلقت على المكان منذ ذلك الحين اسم «حارة اليهود».
وكانت إقامة حارة اليهود ومحو حارة المغاربة خطوة باتجاه التقدم صوب باب المغاربة، الذي هو واحد من 11 بابا اقامها العثمانيون في عهد السلطان سليمان القانوني (عام 1542)، حين شيدوا أسوارا عالية حول البلدة القديمة، بطول 4 كيلومترات تقريبا. وارتفاع 12 مترا، من بين الابواب الأحد عشر سبعة فقط ما زالت مفتوحة، احدها باب المغاربة، الذي يعد اكثرها حساسية في العلاقة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، لسبب جوهري هو انه يشرف على حائط البراق، الذي يطلق عليه اليهود حائط المبكى. ومعروف ان شرارة انتفاضة الاقصى (عام 2000) انطلقت من ذلك الباب، في أعقاب دخول ارييل شارون رئيس الوزراء السابق الى حرم المسجد، الأمر الذي اثار غضب الفلسطينيين فتجمعوا عند باب المغاربة وقاموا برشق اليهود الذين اصطفوا امام «حائط المبكى» بالحجارة. وكانت تلك بداية الانتفاضة التي اتسع نطاقها فيما بعد على النحو الذي يعرفه الجميع.
الحفر الذي بدأه الاسرائيليون عام 67 ظل يمارس في الخفاء طول الوقت. إلا انه ظهر الى العلن في الآونة الاخيرة حيث قامت الجرافات بتدمير الطريق الموصل الى باب المغاربة، ليكون ذلك ذريعة لهدم غرفتين من المسجد الاقصى (من العهدين الأموي والأيوبي) تقعان في حائط البراق، وهو السور الغربي للمسجد. وخطورة هذه الخطوة تكمن في ان هدم الغرفتين من شأنه ان يكشف مباشرة عن مسجد البراق الواقع داخل الحرم القدسي. وفي حوار نشرته صحيفة «العربي» في (11/2) مع الشيخ رائد صلاح، احد ابرز القيادات البارزة في فلسطينيي 48، ذكر ان احد الذين ينفذون جريمة الهدم صرح بأنه سيتم تحويل مسجد البراق الى كنيسة بعد هدم الغرفتين. وذلك يتزامن مع بناء كنيسة أخرى على بعد 50 مترا في المسجد الأقصى، في منطقة حارة الواد، في إطار مخطط التهويد الذي ينفذ بإحكام واصرار.
مما قاله الشيخ رائد صلاح أيضا أن عمليات الحفر وصلت الى مرحلة مدمرة وخطيرة للغاية، لأنها وصلت الى عمق المسجد الأقصى. وتحديدا تحت المنطقة المسماة «الكأس»، الواقعة بين المسجد وقبة الصخرة. وثمة حفريات تتم الآن تحت الحفريات الاولى؛ قسم منها مكشوف وقسم آخر غير ظاهر للعيان. ولدى دائرة الوقف الاسلامي خرائط كاملة ومعلومات دقيقة في هذا الصدد.
واضاف الشيخ رائد ان الاسرائيليين يستخدمون عمالا أجانب (من تايلند) لكي لا يتم تسريب أي معلومات عما يجري تحت الاقصى، وفي محيطه. ولأن هؤلاء العمال لا يجيدون اللغات الاجنبية ويعيشون في تجمعات منطوية على ذاتها ومغلقة تقريبا، فإن ذلك يضمن للاسرائيليين إحكام التكتم على ما يجري.
ومما قاله القيادي الفلسطيني ايضا انه يتم الآن حفر نفق جديد بحي سلوان المقدس باتجاه الاقصى. وهذا النفق قطع مرحلة تحت مسجد عين سلوان، الامر الذي ادى الى تصدع المسجد، حتى اصبح مهددا بالانهيار في أي وقت. والهدف الاسرائيلي من وراء توجهه صوب الاقصى، هو ربط كل الأنفاق المقامة تحت المسجد الكبير في منطقة عين سلوان، بل أن سلطة الاحتلال الاسرائيلية أقامت عدة منشآت تحت الأقصى، مثل كنيس من طابقين ومركز يدعى «قافلة الأجيال».
في حديثه، اعاد الشيخ رائد صلاح التأكيد على ان الطريق الموصل الى باب المغاربة، الذي يجري هدمه الآن، هو جزء من الاقصى المبارك، قامت سلطة الاحتلال بمصادرة مفاتيحه أواخر الثمانينات من القرن المنصرم. ومنذ ذلك الوقت يمنع دخول أي مسلم الى المسجد عبر ذلك الطريق، بسبب ما يقوم به الاسرائيليون من حفريات احدثت تصدعات ظاهرة فيه. وقد حاولت دائرة الاوقاف الاسلامية ترميم الطريق وعلاج تلك التصدعات حتى لا تؤدي الى انهياره، إلا ان الاسرائيليين منعوا بقوة السلاح خبراء تلك الدائرة من القيام بالمهمة. وقد انكشف الآن السبب الذي دفعهم الى ذلك، حيث تبين ان المطلوب اسرائيلياً هو هدم الطريق لا ترميمه ـ للأغراض التي سبق ذكرها.
يعاودني الشعور بالخجل والخزي كلما قرأت في صحف الصباح ان دولة عربية «أعربت عن قلقها» لما يجري في القدس، ودولة ثانية «شجبت بشدة» العدوان الاسرائيلي على الاقصى، وثالثة استدعت السفير الاسرائيلي وحملته رسالة «عتاب واحتجاج» ليوصلها الى حكومته، ورابعة منعت المظاهرات بعد صلاة الجمعة وحاصرت المساجد الكبيرة لهذا الغرض، بحجة الحفاظ على الامن العام واجهاض «حالات الشغب».
وظل السؤال الذي يشغلني طول الوقت هو: أهذا أقصى ما نملك في مواجهة الجريمة الاسرائيلية؟ ـ واذا كان ذلك الغضب الاعلامي هو غاية جهد الانظمة العربية، فما قيمة البيان الذي اصدرته الجامعة العربية ودعت فيه الى عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن لبحث «الانتهاكات الاسرائيلية الخطيرة». كما طالبت اعضاء اللجنة الرباعية بتحمل مسؤولياتهم في هذا الصدد، وهم الذين ما برحوا يضغطون على الحكومة الفلسطينية لاسترضاء اسرائيل وكسب ودها.
اننا اذا لم نكن جادين في التعبير عن الغضب، فهل نتوقع من الآخرين ان يصدقوا نداءاتنا واحتجاجاتنا التي لا تتجاوز حدود البث الاعلامي؟ وهل ننتظر منهم ان يتعاملوا مع المسجد الاقصى بمثل انتفاضتهم دفاعا عن تمثالي بوذا؟
2007-02-14 07:32:52