إيثار النفس لرضى الله
مفهوم إيثار هو قدرة الانسان على العطاء دون بذل عناء يسمى سخاء وإن كان يعطون الأكثر ويُبقون لأنفسهم الأقل؛ فهذا يعنى الجود ، أما إن كنت ممن يعطون الآخرين مع حاجتك إلى ما أعطيت لكنك قدمت غيرك على نفسك؛ فقد وصلت إلى مرتبة الإيثار..وهى ثلاث درجات ..
الدرجة الأولى : أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك دينا . ولا يقطع عليك طريقا ، ولا يفسد عليك وقتا .
يعني : أن تقدمهم على نفسك في مصالحهم . مثل أن تطعمهم وتجوع . وتكسوهم وتعرى ، وتسقيهم وتظمأ ، بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدين . ومثل أن تؤثرهم بمالك وتقعد كلا مضطرا ، مستشرفا للناس أو سائلا . وكذلك إيثارهم بكل ما يحرمه على المؤثر دينه . فإنه سفه وعجز . يذم المؤثر به عند الله وعند الناس .
وأما قوله : ولا يقطع عليك طريقا أي لا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى ، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك ، وتوجهك وجمعيتك على الله . فتكون قد آثرته على الله . وآثرت بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار .
وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضا . مثل أن يؤثر بوقته ويفرق قلبه في طلب خلفه ، أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله . فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته . ويشتت خاطره . فهذا أيضا إيثار غير محمود .
وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك . على الفكر النافع ، واشتغال القلب بالله ، ونظائر ذلك لا تخفى . بل ذلك حال الخلق ، والغالب عليهم .
وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله : فلا تؤثر به أحدا . فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله ، وأنت لا تعلم .
وتأمل أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرهم إيثارهم له ولا ينفعهم . وأي جهالة وسفه فوق هذا ؟
ومن هذا تكلم الفقهاء في الإيثار بالقرب . وقالوا : إنه مكروه أو حرام . كمن يؤثر بالصف الأول غيره ويتأخر هو ، أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة ، أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة ، أو يؤثره بعلم يحرمه نفسه ، ويرفعه عليه ، فيفوز به دونه .
وتكلموا في إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بدفنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها .
وأجابوا عنه بأن الميت ينقطع عمله بموته وبقربه . فلا يتصور في حقه الإيثار بالقرب بعد الموت . إذ لا تقرب في حق الميت . وإنما هذا إيثار بمسكن شريف فاضل لمن هو أولى به منها . فالإيثار به قربة إلى الله عز وجل للمؤثر . والله أعلم .
فصل قال ولا يستطاع إلا بثلاثة أشياء : بتعظيم الحقوق ، ومقت الشح ، والرغبة في مكارم الأخلاق .
ذكر ما يعين على الإيثار فيبعث عليه . وهو ثلاثة أشياء .
[ ص: 285 ] تعظيم الحقوق . فإن من عظمت الحقوق عنده قام بواجبها . ورعاها حق رعايتها . واستعظم إضاعتها . وعلم أنه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدها كما ينبغي . فيجعل إيثاره احتياطا لأدائها .
الثاني : مقت الشح . فإنه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار . فإنه يرى أنه لا خلاص له من هذا المقت البغيض إلا بالإيثار .
الثالث : الرغبة في مكارم الأخلاق . وبحسب رغبته فيها : يكون إيثاره . لأن الإيثار أفضل درجات مكارم الأخلاق .
قال الدرجة الثانية : إيثار رضا الله على رضا غيره . وإن عظمت فيه المحن . وثقلت فيه المؤن ، وضعف عنه الطول والبدن .
إيثار رضا الله عز وجل على غيره : هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته ، ولو أغضب الخلق . وهي درجة الأنبياء . وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه . وأعلاها لأولي العزم منهم . وأعلاها لنبينا صلى الله عليه وسلم عليه وعليهم . فإنه قاوم العالم كله . وتجرد للدعوة إلى الله . واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى . وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه . ولم يأخذه في إيثار رضاه لومة لائم . بل كان همه وعزمه وسعيه كله مقصورا على إيثار مرضاة الله ، وتبليغ رسالاته ، وإعلاء كلماته ، وجهاد أعدائه . حتى ظهر دين الله على كل دين . وقامت حجته على العالمين . وتمت نعمته على المؤمنين . فبلغ الرسالة . وأدى الأمانة . ونصح الأمة . وجاهد في الله حق جهاده . وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه . فلم ينل أحد من درجة هذا الإيثار ما نال . صلوات الله وسلامه عليه .
وأما قوله : وإن عظمت فيه المحن . وثقلت فيه المؤن .
فإن المحنة تعظم فيه أولا ، ليتأخر من ليس من أهله . فإذا احتملها وتقدم انقلبت تلك المحن منحا . وصارت تلك المؤن عونا . وهذا معروف بالتجربة الخاصة والعامة . فإنه ما آثر عبد مرضاة الله عز وجل على مرضاة الخلق ، وتحمل ثقل ذلك ومؤنته ، وصبر على محنته : إلا أنشأ الله من تلك المحنة والمؤنة نعمة ومسرة ، ومعونة بقدر ما تحمل من مرضاته . فانقلبت مخاوفه أمانا ، ومظان عطبه نجاة ، وتعبه راحة ، ومؤنته معونة ، وبليته نعمة ، ومحنته منحة ، وسخطه رضا . فيا خيبة المتخلفين ، ويا ذلة المتهيبين .
[ ص: 286 ] هذا ، وقد جرت سنة الله - التي لا تبديل لها - أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته : أن يسخط عليه من آثر رضاه ، ويخذله من جهته . ويجعل محنته على يديه . فيعود حامده ذاما . ومن آثر مرضاته ساخطا . فلا على مقصوده منهم حصل ، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل . وهذا أعجز الخلق وأحمقهم .
هذا مع أن رضا الخلق : لا مقدور ، ولا مأمور ، ولا مأثور . فهو مستحيل . بل لا بد من سخطهم عليك . فلأن يسخطوا عليك وتفوز برضا الله عنك أحب إليك وأنفع لك من أن يسخوا عليك والله عنك غير راض . فإذا كان سخطهم لا بد منه - على التقديرين - فآثر سخطهم الذي ينال به رضا الله . فإن هم رضوا عنك بعد هذا ، وإلا فأهون شيء رضا من لا ينفعك رضاه ، ولا يضرك سخطه في دينك ، ولا في إيمانك ، ولا في آخرتك . فإن ضرك في أمر يسير في الدنيا فمضرة سخط الله أعظم وأعظم . وخاصة العقل : احتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما . وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما . فوازن بعقلك . ثم انظر أي الأمرين خير فآثره ، وأيهما شر فابعد عنه . فهذا برهان قطعي ضروري في إيثار رضا الله على رضا الخلق .
هذا مع أنه إذا آثر رضا الله كفاه الله مؤنة غضب الخلق . وإذا آثر رضاهم لم يكفوه مؤنة غضب الله عليه .
قال بعض السلف : لمصانعة وجه واحد أيسر عليك من مصانعة وجوه كثيرة . إنك إذا صانعت ذلك الوجه الواحد كفاك الوجوه كلها .
وقال الشافعي رضي الله عنه : رضا الناس غاية لا تدرك . فعليك بما فيه صلاح نفسك فالزمه .
ومعلوم : أنه لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره . ولقد أحسن أبو فراس في هذا المعنى - إلا أنه أساء كل الإساءة في قوله ، إذ يقوله لمخلوق لا يملك له ولا لنفسه نفعا ولا ضرا :
فليتك تحلو ، والحياة مريرة وليتك ترضى . والأنام غضاب [ ص: 287 ] وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب
ثم ذكر الشيخ - رحمه الله - ما يستطاع به هذا الإيثار العظيم الشأن . فقال :
ويستطاع هذا بثلاثة أشياء : بطيب العود . وحسن الإسلام . وقوة الصبر .
من المعلوم : أن المؤثر لرضا الله متصد لمعاداة الخلق وأذاهم ، وسعيهم في إتلافه ولا بد . هذه سنة الله في خلقه . وإلا فما ذنب الأنبياء والرسل . والذين يأمرون بالقسط من الناس ، والقائمين بدين الله ، الذابين عن كتابه وسنة رسوله عندهم ؟
فمن آثر رضا الله فلا بد أن يعاديه رذالة العالم وسقطهم ، وغرثاهم وجهالهم ، وأهل البدع والفجور منهم ، وأهل الرياسات الباطلة ، وكل من يخالف هديه هديه . فما يقدم على معاداة هؤلاء إلا طالب الرجوع إلى الله ، عامل على سماع خطاب ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ومن إسلامه صلب كامل لا تزعزعه الرجال . ولا تقلقله الجبال ، ومن عقد عزيمة صبره محكم لا تحله المحن والشدائد والمخاوف .
قلت : وملاك ذلك أمران : الزهد في الحياة والثناء . فما ضعف من ضعف ، وتأخر من تأخر إلا بحبه للحياة والبقاء ، وثناء الناس عليه ، ونفرته من ذمهم له . فإذا زهد في هذين الشيئين ، تأخرت عنه العوارض كلها . وانغمس حينئذ في العساكر .
وملاك هذين الشيئين بشيئين : صحة اليقين . وقوة المحبة .
وملاك هذين بشيئين أيضا : بصدق اللجأ والطلب ، والتصدي للأسباب الموصلة إليهما .
فإلى هاهنا تنتهي معرفة الخلق وقدرتهم . والتوفيق بعد بيد من أزمة الأمور كلها بيده وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما .
قال الدرجة الثالثة : إيثار إيثار الله . فإن الخوض في الإيثار دعوى في الملك . ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله . ثم غيبتك عن الترك .
يعني بإيثار إيثار الله : أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك . وأنه هو الذي تفرد بالإيثار ، لا أنت . فكأنك سلمت الإيثار إليه . فإذا آثرت غيرك بشيء فإن الذي آثره هو الحق ، لا أنت . فهو المؤثر حقيقة . إذ هو المعطي حقيقة .
ثم بين الشيخ السبب الذي يصح به نسبة الإيثار إلى الله ، وترك نسبته إلى نفسك ، فقال فإن الخوض في الإيثار : دعوى في الملك .
فإذا ادعى العبد : أنه مؤثر فقد ادعى ملك ما آثر به غيره . والملك في الحقيقة : إنما هو لله الذي له كل شيء . فإذا خرج العبد عن دعوى الملك فقد آثر إيثار الله - وهو إعطاؤه - على إيثار نفسه . وشهد أن الله وحده هو المؤثر بملكه . وأما من لا ملك له : فأي إيثار له ؟ .
وقوله : ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله .
يعني أنك إذا آثرت إيثار الله بتسليمك معنى الإيثار إليه : بقيت عليك من نفسك بقية أخرى لا بد من الخروج عنها . وهي أن تعرض عن شهودك رؤيتك أنك آثرت الحق بإيثارك ، وأنك نسبت الإيثار إليه لا إليك . فإن في شهودك ذلك ، ورؤيتك له : دعوى أخرى . هي أعظم من دعوى الملك . وهي أنك ادعيت أن لك شيئا آثرت به الله . وقدمته على نفسك فيه ، بعد أن كان لك . وهذه الدعوى أصعب من الأولى . فإنها تتضمن ما تضمنته الأولى من الملك . وتزيد عليها برؤية الإيثار به فالأول : مدع للملك مؤثر به . وهذا مدع للملك ومدع للإيثار به . فإذن يجب عليه ترك شهود رؤيته لهذا الإيثار . فلا يعتقد أنه آثر الله بهذا الإيثار . بل الله هو الذي استأثر به دونك . فإن الأثرة واجبة له بإيجابه إياها بنفسه . لا بإيجاب العبد إياها له .
قوله : ثم غيبتك عن الترك .
يريد : أنك إذا نزلت هذا الشهود ، وهذه الرؤية : بقيت عليك بقية أخرى . وهي [ ص: 289 ] رؤيتك لهذا الترك المتضمنة لدعوى ملكك للترك . وهي دعوى كاذبة . إذ ليس للعبد شيء من الأمر . ولا بيده فعل ولا ترك . وإنما الأمر كله لله .
وقد تبين في الكشف والشهود والعلم والمعرفة : أن العبد ليس له شيء أصلا والعبد لا يملك حقيقة . إنما المالك بالحقيقة سيده . فالأثرة والإيثار والاستئثار كلها لله ومنه وإليه . سواء اختار العبد ذلك وعلمه ، أو جهله ، أم لم يختره . فالأثرة واقعة . كره العبد أم رضي . فإنها استئثار المالك الحق بملكه تعالى . وقد فهمت من هذا قوله : فإن الأثرة تحسن طوعا . وتصح كرها والله سبحانه وتعالى أعلم .
المصدر : كتاب "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" لـ ( ابن قيم الجوزية)