محمود عساف .. أمين المعلومات في جماعة الإخوان المسلمين
قال اللواء كمال عبد الرازق: "ما من مرة ذهبنا ونحن طلاب بكلية البوليس للالتقاء بالإمام الشهيد إلا ووجدنا محمود عساف معه".
وقال عنه الأستاذ سيف الإسلام حسن البنا: "كان الولد يحبه كثيرًا".
من هنا يتبين لنا أهمية هذه الشخصية ودورها المعلوماتي في جماعة الإخوان المسلمين، كما تكشف لنا -بقربها الشديد منالإمام البنا- جوانب من شخصية الإمام البنا، وأسرارًا اطلع عليها وحده، وحوارات مع الإمام البنا لم يشهدها إلا هو.
وقد ضَمَّن ذلك كله في كتابه "مع الإمام الشهيد حسن البنا"، وقد تناول فيه ذكرياته مع الإمام البنا، وطرائف ومواقف من أحداث معتقل الطور، ومواقفه من النظام الخاص وشهاداته عليه، وحديثًا مفصلاً عن صحافة الإخوان المختلفة، وآخر مجملاً عن فكر الإمام البنا، ومسيرة حياته العملية والتعليمية أستاذًا جامعيًا بمختلف جامعات مصر والدول العربية، وجهوده الحثيثة في مجال إدارة الأعمال والتسويق والدعاية والإعلان بما ينم عن فكر منهجي ورؤية واضحة المعالم تعكس خلفيته الإسلامية، وحرصه على تطبيق مبادئ الإسلام القويم.
وعلى الرغم من انقطاع صلته التنظيمية بجماعة الإخوان المسلمين منذ عام 1953م إلا أنه تمسك بتلك المبادىء التي تعلمها على يد الإمام البنا - رحمه الله - وحرص على تطبيقها في مجال الإدارة والعمل الجامعي، وفي حياته الخاصة مع أسرته، وسوف يكتشف القارئ ذلك من خلال ما ننقله من مذكراته التي تكشف جوانب مهمة من صورة هذا العصر.
إن الإخوان المسلمين أكبر من تلك الصفة التنظيمية التي تربط أعضاءه، إنها فكرة تنمو وتنتشر مع صاحبها أينما حل وحيثما ارتحل، وربما يفيد الفكرة وهو خارج التنظيم أكثر من إفادتها وهو فيه بما يتيسر له من وسائل لم تتح لغيره من أفراد التنظيم.. لذلك كان معيار الانتماء إلى الإخوان المسلمين هو الإيمان بفكرتهم.
ولا يسعنا إلا أن نتقدم بخالص الشكر وعظيم الامتنان إلى الأستاذ الدكتور أيمن محمود عساف لتزويدنا بالكثير عن والده الكريم، شاكرين له حسن تعاونه، وسعة صدره، وكرم أخلاقه، وإفساح الوقت لنا رغم ارتباطاته الكثيرة.. متمنين له دوام التفوق والعطاء.
المولد والنشأة
ولد محمود إبراهيم عياط عساف بقرية القطاوية مركز أبو حماد بمحافظة الشرقية في 12 يناير 1921م، لأب يعمل مهندسًا بالمساحة يحرص على تعليم أولاده، وأم قروية تسعى لتربية أبنائها على القيم والأخلاق الحميدة، وخمسة من الأبناء الذكور هو أكبرهم.
التحق بكلية التجارة عام 1938م، وكان يتمنى الالتحاق بالهندسة إلا أنه لم يوفق في ذلك، وكانت كلية التجارة آنذاك في المنيرة محل معهد التعاون الآن، وبعد مضي العام الأول احتاج الجيش البريطاني إلى هذا المبنى عام 1939م بعد بداية الحرب العالمية الثانية, فأجلي الطلاب إلى ملحق تم بناؤه لكلية العلوم في جامعة القاهرة بالجيزة.
في ركب الإخوان المسلمين
يروى الدكتور محمود عساف تفاصيل التحاقه بجماعة الإخوان المسلمين عام 1941م، فيقول: "كنا قد أنشأنا ناديًا رياضيًا في بلدتنا, انضم إليه معظم شباب البلدة المتعلم, وكنا ندفع كل شهر اشتراكًا قدره ثلاثة قروش، وكان نشاطنا قاصرًا على الإجازة الصيفية، ولم يكن لنا مقر نمارس فيه نشاطنا إلا دواوير العائلات التي ينتمي إليها أعضاء النادي.
وقد توجهت للشيخ محمد سليم البركي رئيس الإخوان في بلدتنا - وكان قد خصص غرفة من داره وشرفة وجزءًا من حديقته لشعبة الإخوان المسلمين - وطلبت منه أن يسمح لنا بممارسة نشاطنا الرياضي من مقر الإخوان فوافق، وبدأنا نمارس النشاط الرياضي من ذلك المكان, وبطبيعة الحال كنا نستمع لأحاديث ودروس الشيخ البركي.
وفي أحد الأيام أهداني ابن عمي المرحوم سعيد الملط بعض رسائل الإخوان المسلمين فقرأتها، ولست أدري ما حدث, ولا أجد له تفسيرًا إلا قول الله تعالى: "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"، ففتح الله قلبي وقرأت تلك الرسائل بالإمعان الواجب.
وبعد انتهاء العطلة والعودة إلى كلية التجارة, قابلت محمد يونس الأنصاري رئيس الإخوان بالكلية, الذي صحبني إلى دار المركز العام للإخوان المسلمين, حيث استمعت إلى حديث الثلاثاء الذي كان يلقيه الإمام الشهيد كل ثلاثاء، وبعد الحديث انتظرنا حتى انصرف معظم المستمعين, ثم ذهبنا لنسلم على فضيلة الأستاذ، سلمت عليه, وما أشعر إلا وكأن طاقة من نور قد شملت كياني كله مصداقًا للحديث الشريف: "الأرواح جنود مجندة, ما توافق منها ائتلف, وما تنافر منها اختلف" (رواه مسلم).
صرت أداوم على زيارة المركز العام, وكلما قابلت الإمام الشهيد كان يحييني قائلاً: "أهلا يا أستاذ عساف"، كان قوى الذاكرة بشكل مذهل, حيث لم أكن قد قدمت إليه إلا مرة واحدة فقط.
قررت أن أشغل وقتي مع الإخوان المسلمين في القيام بما يفيد الوطن، وما يعود خيره على المسلمين، ولم تمض أشهر قليلة إلا وقد قربني الإمام الشهيد إليه, ثم صرت أمينًا للمعلومات لديه بعد ذلك"(1).
تخرج محمود عساف في كلية التجارة عام 1943م وكان ترتيبه السادس، فعين في فرع البنك الأهلي بالزقازيق، وكانت المعاملة قاسية وسيئة للغاية, وكل يوم يجد فيه منغصات من اليهود ومن المدير الذي ينصاع إليهم.
وكان بعد انتهاء الدوام في الساعة الثامنة مساء يتوجه إلى دار الإخوان المسلمين بالزقازيق؛ حيث كان نائبًا لرئيس الجوالة لمنطقة القناة والشرقية، وكان يعمل على تكوين فرق الجوالة بمدن الشرقية وقراها، ويرتب المؤتمرات الكشفية، ويقيم معسكراتها حتى وصل عدد جوالة الشرقية إلى حوالي خمسة آلاف, شاركوا في الاستعراض الكشفي الذي استعرضه الملك عبد العزيز آل سعود حين أقام ضيفًا على مصر في قصر الزعفران, وكان الإمام الشهيد يقف إلى جواره أثناء الاستعراض الذي اشترك فيه حوالي 15 ألف جوالاً.
قدم محمود عساف استقالته من البنك الأهلي، وعمل بمكتب عبد الملك بك أباظة وكيل وزارة التجارة آنذاك، وأتاح له العمل بالقاهرة أن يعمل متطوعًا بالمركز العام للإخوان المسلمين, وأن يكون قريبًا من الإمام البنا، وفجأة قررت حكومة السعديين نقله إلى قنا مفتشًا للتموين، وتزامن ذلك مع نقل سعد الوليلي إلى أسيوط، فذهبوا إلى الأستاذ الإمام, وأبلغوه بما تم, فقال: قدما استقالتكما لهم، وأعد الأستاذ عبد الحكيم عابدين الاستقالتين, ونشرتا في جريدة الإخوان المسلمين، وفيها هجوم على الحكومة وسياستها تجاهالإخوان.
شركة الإعلانات العربية
ولاهتماماته الإعلانية عين مديرًا لإدارة إعلانات جريدة الإخوان المسلمين اليومية بعد أن كان مشرفًا عليه بشكل تطوعي في وقت كانت تعاني فيه الجريدة من الخسائر لنقص الإيرادات والإعلانات، فقام بتعيين حسام لطفي سكرتيرًا، واستخدم عددًا من المندوبين الإخوان, ودربهم بنفسه حتى صاروا من أصلح المندوبين، وتفوقوا على المندوبين اليهود والأجانب، وبدأت إعلانات الجريدة تنتعش.
في الأربعينيات من القرن الماضي كانت وكالات وشركات الإعلان في مصر كلها أجنبية، وفي عام 1945م فكر الإمام البنا في إنشاء شركة إعلانات وطنية، وعرض الفكرة على عدد من رجال الأعمال المسلمين, فوافق عليها محمد سالم -صاحب شركات الأوتوبيس آنذاك- ومحمد عبد المنعم إبراهيم, ومحمد علي إمام تاجر الجملة، وتأسست شركة الإعلانات العربية برأسمال قدره عشرة آلاف جنيه دفع منها الربع فقط، وتم تعيين محمود عساف مديرًا لها.
وافتتحت مقرًا لها في شارع إبراهيم باشا، وكان الإمام البنا يعقد فيها لقاءاته المختلفة، وبعد حل الجماعة ومصادرة أموالها في 8 ديسمبر 1948م، أغلقت الشركة، واعتقل محمود عساف مع غيره من الإخوان.
وعلى ذلك كان محمود عساف مهتمًا بدراسة الإعلان من الوجهة العلمية, لذلك سجل رسالة الماجستير في الإعلان بعنوان: "دراسة تحليلية لوكالات الإعلان في مصر في عام 1947 وقطع الاعتقال في ديسمبر 1948 مسيرتها حتى انتهى منها في عام 1953م, ثم تقدم للدكتوراه, وحصلت عليها عام 1963م وكانت في الإعلان أيضًا, وموضوعها: "الإعلان وعلاج مشكلات مندوبية في مصر"(2).
أمين المعلومات
عمل الدكتور محمود عساف أمينًا لقسم المعلومات مع الإمام الشهيد حسن البنا منذ أوائل عام 1944 حتى آخر عام 1948م يعاونه في ذلك مجموعة من الإخوان المتطوعين الذين لا يتقاضون أجرًا نظير ذلك.
وينحصر مجال عمل هذا القسم في جمع معلومات عن جميع الزعماء والمشاهير من رجال السياسة والفكر والأدب والفن, سواء كانوا من أعداء الإخوان أو أنصارهم، ثم ترد هذه المعلومات إلى الدكتور محمود عساف ليحتفظ بها في أرشيف, ليعود إليها كلما طلب أحد هؤلاء مقابلة الأستاذ الإمام, أو اجتمع بالإمام لأية مناسبة من المناسبات, ويُذَّكر الإمام البنا بالمعلومات حتى تكون في خليفته وهو يتحدث مع ذلك الشخص.
وكان الدكتور عساف ينتظر الإمام البنا كل ليلة حتى يفرغ من عمله بالمركز العام، ليصحبه في الطريق إلى بيته الذي لم يكن يبعد 300 مترًا عن المركز العام، ويتجاذبان أطراف الحديث في شئون الجماعة، ليقدم الدكتور عساف تقريره إلى الإمام البنا، ويأخذ منه تكليفات جديدة فيما يخص قسم المعلومات.
وقد ذكر الدكتور محمود عساف عدة مواقف لعمل قسم المعلومات، منها
أولاً: كان "بالقصر الملكي عدة مكاتب لمخابرات الملك أحدها تديره السيدة سنية قراعه التي ذهبت بشجاعة إلى دار الإخوان المسلمين، وطلبت مقابلة الإمام البنا فأذن لها، ثم اتصل بي الإمام البنا هاتفيًا، وطلب مني الحضور إليه على وجه السرعة.
قدمها الأمام لي, وقال: السيدة سنية مكلفة من السراي بجمع معلومات عن الإخوان, وقد حضرت إلينا متفضلة لتتلقى المعلومات الحقيقية من مصدرها الأصلي، ولهذا أريدك أن تكون على صلة بها لتمدها بما تحتاج إليه من معلومات, وسأقول لك ما تقوله لها فيما بعد.
كان غرض الأمام ألا تحضر السيدة سنية إلى دار الإخوان مرة أخرى؛ حيث إن باب الدار تحت الرقابة المستمرة, ويمكن أن تؤول زيارتها للإمام تأويلات كثيرة، لهذا طلب مني أن أقابلها في مكتبي بشركة الإعلانات العربية أو بمكتبها في ميدان سليمان باشا.
حضرت السيدة سنية إلى مكتبي بعد ذلك بثلاثة أيام, وكنت قد أعددت لها معلومات كافية عن الإخوان ودعوتهم وفكرهم وتشكيلاتهم، وما يطالبون به من إصلاحات، وأعطيتها تلك البيانات, واتفقنا على أن نلتقي المرة القادمة في مكتبها"(3).
ثانيًا: "بعث إلى الإمام البنا بورقة صغيرة مع رسول وأنا في شركة الإعلانات العربية يقول فيها:
إن حافظ رمضان باشا –زعيم الحزب الوطني بعد محمد فريد- سيأتي إلى مكتبي في الساعة العاشرة والنصف للالتقاء به عندي.
أعددت المكتب لهذا اللقاء, وقبل الموعد بخمس دقائق حضر حافظ باشا, وجلس ينتظر الإمام؛ حيث كان الإمام دقيقًا في مواعيده لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنها.
عندما حضر الأستاذ الإمام تركت لهما غرفة مكتبي، وجلست في غرفة حسام لطفي سكرتيري الخاص، وبعد نصف ساعة دققت الباب مستأذنًا, وفتحته لكي أسألهما إن كانا يبغيان شيئًا, فوجدت حافظ باشا ممسكًا رأس الإمام بيديه ويقول: مخ كبير.. مخ كبير"، وعلمت فيما بعد أن المقابلة كانت بشأن انسحاب الإخوان من اللجنة العليا للطلبة التي بدأ الشيوعيون يتسللون إليها ويحاولون مع الوفديين السيطرة عليها"(4).
ثالثًا: "كان الإمام إذا اكتشف بعضًا ممن يعملون مع القلم السياسي -المباحث العامة الحالية– فإنه يبعث إليهم تباعًا، ويجلس مع كل منهم على انفراد, ثم يقول له: عرفت أنك تعمل لحساب القلم السياسي، فيرد الأخر طبعًا منكرًا بشدة.
فيقول الإمام له: أنا أعلم ذلك يقينًا, ولم أحضرك هنا للتحقيق معك, بل لأحل لك المال الذي تأخذه من الحكومة، فأنت تتجسس علينا وهذا حرام، وتتقاضى أجرًا نظير تجسسك فهذا الأجر حرام، وأنت لا تعلم شيئًا ذا قيمة من أخبار الإخوان فتؤلف لرئاستك في القلم السياسي أية أخبار من عندك, وهذا كذب وهو حرام، أريد أن أبعدك عن هذا الحرام كله، وأسمح لك بأن تتقاضى ما شئت من أجر من الحكومة بشرط أن تبلغهم الأخبار الصحيحة.
اذهب إلى محمود عساف مدير شركة الإعلانات العربية وهو سيعطيك الأخبار الصحيحة مرتين كل أسبوع.
أبلغني الإمام بهذا الاتفاق، وكان بعث لي كل يوم بأهم الإخبار في ظرف مغلق, أو يبلغها لي في آخر الليل حين أصحبه إلى داره، وكنت أعد أوراقًا أكتبها بنفسي على الآلة الكاتبة, كل منها يحتوي على خمسة أو ستة أخبار, بحيث يكون هناك خبر مكرر عند كل اثنين, وذلك لكي يصادق كل منهما على تقرير الآخر المرفوع للقلم السياسي.
وكانت تلك الأخبار تتعلق غالبًا بالأشخاص الهامين الذين يزورون الأستاذ الإمام, وما يدور معهم من أحاديث ومناقشات, وبعض أخبار أقسام المركز العام كالجوالة وقسم الطلاب وقسم العمال, مما كان يهتم به رجال القلم السياسي كثيرًا، ولم نكن نؤلف أية أخبار؛ حيث إن الأخبار الحقيقية كانت كثيرة ومتوافرة، ولم يكن هناك داع إليها لما يحتمل أن يكشف بعد ذلك من كذب فيها, وكان من المهم لنا أن ينال هؤلاء الجواسيس ثقة رجال القلم السياسي.
كان عدد هؤلاء الجواسيس سبعة, منهم ثلاثة يعملون موظفين بالمركز العام، قلت للإمام يومًا: لماذا لا نتخلص من هؤلاء ونربح أنفسنا ؟
فقال: يا عبيط ! هؤلاء نعرفهم وإذا تخلصنا منهم سيرسلون إلينا غيرهم ممن لا تعرفه"(5).
من ذكريات الإمام
وقد ذكر الدكتور محمود عساف عدة مواقف مع الإمام البنا لم يشهدها غيره، أو كان أحد شهودها المعدودين، وهي تكشف جوانب فريدة في شخصية الإمام البنا، ومنهجه في التفكير، وقدرته على الاحتواء وتواضعه، ومنها:
أولاً: عندما كلف إسماعيل صدقي بتشكيل الوزارة عام 1946م, أخذ يبحث عمن يؤيده شعبيًا، وعرض وزارة الأوقاف علىالإمام البنا، فوعده بالتفكير في الأمر، "وفي المساء وأثناء سيرنا من المركز العام إلى منزله, سألت الإمام عن حقيقة ما يشاع حول قبولنا الوزارة, فقال: ما رأيك أنت؟ قلت: لا بأس فهي خطوة على الطريق, غير أن وزارة الأوقاف ليست من مقامنا، ونحن القوة الشعبية الوحيدة التي يستند إليها إسماعيل صدقي, فحبذا لو كانت وزارة المالية مثلاً أو إحدى وزارات الدرجة الأولى، أما الأوقاف فهي وزارة من الدرجة الثالثة؛ لأنها لا تضم شئون الأزهر.
ضحك الإمام وقال: نحن رجال دعوة ولسنا رجال حكم، ألا تعلم أن وزارة الأوقاف تسيطر على ما يقرب من عشرة آلاف خطيب مسجد؟! إن هؤلاء سوف يكونون للدعوة في كل مكان إذا تولينا وزارة الأوقاف.. لا للحكم من خلالها, ولكن لنشر دعوتنا التي هي دعوة الإسلام"(6)، ثم خرج التشكيل الوزاري ولم يكن اإمام البنا من أعضائه.
ثانيًا: أسرع الإمام البنا إلى بني سويف لإطفاء الفتنة التي اشتعلت بين المسلمين والمسيحيين, وألقى محاضرة "شرح فيها دعوة الإسلام, وأوضح فيها ما تتصف به الدعوة من سماحة, وأن المسيحيين أخوة لنا لهم ما لنا وعليهم ما علينا, وأنهم باعتبارهم أهل الذمة فهم في ذمة المسلمين، وعلى المسلمين رعايتهم والدفاع عنهم، وأشار إلى ما يكنه الإسلام للمسيحيين من مودة، وذكر الآيات التي تمجد عيسى بن مريم وأمه العذراء.. أخذ الإمام يخطب ساعتين -وكنت حاضرا معه- لدرجة أن قسيسًا إنجيليًا كان يجلس في مواجهته ودموعه تنساب من عينيه, وما لبث حين انتهى الأستاذ من حديثه أن قام له معانقًا بشدة.
بعد هذه المحاضرة التي رتب لها الأخ أحمد البساطي رئيس الإخوان, وعقدها في نادي البلدية، وحضرها سكان بني سويف جميعًا على وجه التقريب, حضر لزيارة الأستاذ بالمركز العام عدد من قادة المسيحيين أذكر منهم: توفيق أو رهيب دوس باشًا, ولويس فانوس، ومريت بطرس غالي عضوا مجلس الشيوخ, وطلبوا من الإمام أن ينشئ شعبة باسم "الإخوان المسيحيون", ورد عليهم الإمام بأن الفكرة طيبة, ولكن يحول دون تنفيذها أن دعوتنا عالمية، ولا تقتصر على مصر وحدها, وأن نشاطنا في مصر لا يعدو أن يكون جزءًا من نشاط الإخوان المسلمين العالمي, فقد أرسل الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- للناس كافة، وعلى هذا لا بأس من تكوين "الإخوان المسيحيين"، وأؤكد لكم أنه سيكون هناك تعاون تام بيننا وبينكم في كافة مجالات عمل الخير والدعوة إلى مكارم الأخلاق، ومقاومة الإلحاد الذي بدأ ينتشر بين شباب المتعلمين.
وقد نشرت مجلة المصور في ذلك الوقت أن شخصيات غير إسلامية بارزة انضموا إلى الإخوان المسلمين ومن بينهم لويس فانوس ومريت بطرس غالي"(7).
ثالثًا: "كنت أنتظر الإمام إلى أن يفرغ من عمله ثم أصحبه إلى داره في طريقي إلى داري، ونتحدث في الطريق عن شئون الدعوة وعما حدث معه في ذلك اليوم، وما يحتاج إليه من عمل مني.
وصلنا إلى داره، وحييته مودعًا ومقبلاً يده, فقال: أنا الليلة وحيد في البيت، فقد ذهبت زوجتي وأولادي لزيارة خالهم الأستاذ عبد الله الصولي في الإسماعيلية, واليوم الخميس وغدًا الجمعة, ولا أظن أن هناك ما يمنعك من أن تبيت هذه الليلة معي، فقبلت المبيت معه شاكرًا.
البيت بسيط جدًا، ومفروش بالحصير، وليس فيه من الكماليات شيء.
قال: عندنا هنا غرفتا نوم، بإحداهما سريران ولكنهما مليئان بالبق، أما الغرفة الثانية فقد نظفت سريرها بنفسي اليوم، فان شئت ننام سويًا على هذا السرير، قبلت طبعًا، وارتديت إحدى بيجاماته التي أحضرها لي, وكانت قصيرة جدًا ومترهلة علي.
كان الوقت صيفًا, وتناولنا طعامًا خفيفًا من الخبز والجبن وكوبًا من اللبن الحليب الساخن, تمددنا على السرير، كانت ليلة لا تنسى مدى العمر, فالأستاذ الإمام مع بساطته له هيبة في النفس وتقدير عظيم, ولم أكن مصدقًا أني أنام إلى جواره على سرير واحد.
ما لبث أن استغرق في النوم في حين أني لم أنم لحظة واحدة حتى قبيل صلاة الفجر.. كنت أخاف أن أتقلب من جنب إلى جنب فأوقظه من سباته العميق، لذلك ظللت طول الليل شاخصًا ببصري إلى لا شيء, أفكر فقط في أني الآن في مكانة لم يبلغها الكثير من الإخوان قبلي، ولي أن أفخر بذلك.
نادى علي فضيلة الإمام قبيل الفجر وأخذنا نتهجد, ثم صلينا الصبح جماعة، ثم قرأنا المأثورات، وبعد الصلاة أخذتني سنة من النوم تيقظت بعدها على أصوات حركة في الصالة حيث توجد مائدة الطعام, فقمت وقال: لقد كنت على وشك أن أوقظك.. لقد جهزت الإفطار.
وجدت على المائدة صحنين من الفول المدمس الساخن بالسمن البلدي، وقطعتين من الجبن ورغيفين ساخنين، تناولت معه الإفطار حيث كانت الساعة السابعة صباحًا، قال: أتعلم أني لا أنام في اليوم أكثر من 5 ساعات, وفي معظم الأيام لا أكل إلا وجبتين.. رحمه الله رحمة واسعة، وأدخله فسيح جناته"(
.
رابعًا: "في يوم من أيام صيف عام 1945م كنت أعمل مديرًا عامًا وعضوًا منتدبًا لشركة الإعلانات العربية، ذهبت إلى الأستاذ الإمام كعادتي كل يوم لأتلقى تعليماته فيما يتصل بالمعلومات, وكان في ذلك الوقت غير مشغول بضيوف أو أعمال لها صفة الاستعجال، قال لي: قم بنا نذهب إلى البنك العربي لنفتح حساب للإخوان هناك.
توجهنا إلى مكتب الرئيس، دخلنا وألقينا السلام وجلسنا، وكان هناك رجل جالس على مقعد مجاور للمكتب وظهره منحرف نحونا، وكان يتحدث مع شومان بك مدير البنك، وفي انتظارنا صامتين إلى أن تنتهي تلك المقابلة فاجأنا شومان بك بقوله: "أهلاً وسهلاً" بصوت عال جعل الجالس إلى مكتبه ينظر نحونا، وإذ بذلك الجالس ينتفض واقفًا ويهتف: حسن بك ؟ أهلاً وسهلاً يا حسن بك، ثم تقدم نحونا مصافحًا الإمام ثم إياي ثم جلس على مقعد مجاور للإمام وقال: أنا أنور وجدي.. المشخصاتي –الممثل- طبعًا أنتم تنظرون إلينا ككفرة نرتكب المعاصي كل يوم، في حين أني والله أقرأ القرآن وأصلي كلما كان ذلك مستطاعًا.
قال له الإمام: "يا أخ أنور أنتم لستم كفرة ولا عصاه بحكم عملكم؛ فالتمثيل ليس حرامًا في حد ذاته, ولكنه حرام إذا كان موضوعه حرامًا، وأنت وإخوانك الممثلون تستطيعون أن تقدموا خدمة عظمى للإسلام إذا عملتم على إنتاج أفلام أو مسرحيات تدعو إلى مكارم الأخلاق، بل أنكم تكونون أكثر قدرة على نشر الدعوة الإسلامية من كثير من الوعاظ وأئمة المساجد.
إني أرحب بك، وأمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة لنتبادل الرأي حول ما يمكن أن تسهموا به في نشر الفضيلة والدعوة إلى الله"(9).
مجلة الكشكول الجديد
يقول الدكتور محمود عساف: "في أواخر عام 1946 اشتد الخلاف بين الوفد والإخوان المسلمين، فبدأت جرائد الوفد: صوت الأمة والبلاغ والجمهور والنداء هجومًا عنيفًا على الإخوان, اتسم بالخروج على الأعراف والأخلاق، فكرالإمام حسن البنا فيما ينبغي فعله لمواجهة شتائم جرائد الوفد والرد على سفالاتهم، وكانت الفكرة جديدة لم تخطر على بال أحد, وكلفني بتنفيذها.. تلك الفكرة هي إصدار مجلة مستقلة تنبري للرد على جرائد الوفد بذات الأسلوب.
استدعاني الإمام إلى مكتبه وشرح لي الفكرة موضحًا أنه لا سبيل للرد على سباب الوفد إلا بمثله، بأسلوب رادع بشرط ألا يمس تاريخ وأدب الإخوان, وعلى ذلك ينبغي أن تنأى جريدة الإخوان اليومية عن هذا الأسلوب فهي جريدة للتاريخ, وسيكتب عنها المؤرخون فيما بعد, ولا يجب أن تنزل عن المستوى الرفيع الذي احتلته في نفوس الناس، جمعني الإمام مع الأخ الأستاذ أمين إسماعيل, وجلسنا سويًا نتداول في الأمر, واخترنا هيئة التحرير من كبار الكتاب الساخرين في ذلك الوقت.
رأيت والأستاذ أمين إسماعيل أن نتقدم باستقالتنا من الهيئة التأسيسية للإخوان حتى لا نجرح الجماعة ونسيء إلى تاريخها, ونتحمل عبء ما يقع من أخطاء أو إسفاف في الأسلوب الذي كان يناسب ظروف ذلك الوقت، وفيما يلي نص الاستقالة المرفوع للمرشد العام:
".. وبعد, فقد انتوينا إصدار مجلة الكشكول الجديد" بروح قد لا تتفق مع أسلوب الدعوة في محاربة الحزبية, وحتى نتحمل تبعة عملنا وحدنا أمام الله وأمام أنفسنا وأمام الرأي العام, رأينا أن نرفع إلى فضيلتكم استقالتنا من الهيئة وتبعاتها، وما يترتب على عضويتها، راجين التفضل بقبولها مشكورين، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته"، ونشر نص هذه الاستقالة بالعدد الرابع من مجلة الكشكول الجديد الصادر في 29 أغسطس 1947م.
وصدر العدد الأول من الكشكول الجديد يوم الاثنين 8 سبتمبر 1947 في حجم المجلة، ثم غيرنا الشكل إلى حجم التابلويد –النصف- لتخفيض نفقات الطباعة بالألوان, واستمر الصدور إلى العدد 59 الصادر في 27 نوفمبر 1948م أي قبل حل الإخوان بأيام الإخوان.
أذكر وأنا أصدر مجلة الكشكول الجديد, وكانت حرب فلسطين على أشدها بين المجاهدين من الإخوان والجيش المصري بأسلحته الضعيفة والجيوش العربية الهزيلة من جهة, واليهود من جهة أخرى أن كنا نهاجم اليهود, وبخاصة أولئك الذين يتبرعون بأرباحهم التي يحصلون عليها من مصر لصالح العصابات الصهيونية، وطلبني مسيو "حاييم" رئيس مجلس إدارة شركة الإعلانات الشرقية وقتذاك.
وقال: مسيو عساف أنت تعرف أن العملاء الكبار للإعلانات هم اليهود: شيكوريل, وأريكو, وعمر أفندي, وداود عدس, وبنزايون, غير المحلات الصغيرة الكثيرة، وقد طلبوا مني عدم نشر أي إعلان في مجلتك إن لم تتوقف عن مهاجمة اليهود.
عرضت الأمر على الإمام الشهيد فقال: "نحن أصحاب رسالة، والصحافة من وسائلنا، وليست غاية لنا، لا تستمع إليهم، وليكن ما يكون"، ولم تمض 4 أشهر بعد ذلك إلا وكنت قد أغلقت المجلة لكثرة خسائرها"(10).
مقتل الخازندار
كان محمود عساف مستشارًا لمجلس إدارة النظام الخاص منذ عام 1945 باعتباره أمينًا للمعلومات، وكان يحضر الاجتماعات، وتعرض عليه مشاكل النظام وأعضائه, ويقر معهم أساليب التدريب التي تخدم الفصائل التي سوف تتوجه إلى فلسطين، وقد قتل المستشارالخازندار وهو مستشار لمجلس إدارة النظام، ولم يكن مجلس الإدارة يعلم شيئًا عن هذه الواقعة إلا بعد الاطلاع عليها في الصحف.
"في ذات اليوم طلب الأستاذ الإمام عقد اجتماع لمجلس الإدارة بمنزل عبد الرحمن السندي، وحضر الأستاذ بعد صلاة العشاء وبصحبته شخص آخر لا أذكر إن كان حسين كمال الدين المسئول عن الجوالة أو صلاح شادي رئيس نظام الوحدات الذي كان يضم ضباط وجنود البوليس.
دخل الأستاذ وهو متجهم, وجلس غاضبًا, ثم سأل عبد الرحمن السندي قائلاً: أليست عندك تعليمات بألا تفعل شيئًا إلا بغير إذن وبغير عرض على مجلس إدارة النظام ؟
فقال عبد الرحمن: لقد طلبت الإذن وصرحتم فضيلتكم بذلك !
قال الإمام: كيف ؟ هل أصرح لكم وأنا لا أدري؟
قال عبد الرحمن: لقد كتبت إلى فضيلتكم أقول ما رأيكم دام فضلك في حاكم ظالم يحكم بغير ما أنزل الله، ويوقع الأذى بالمسلمين، ويمالئ الكفار والمشركين والمجرمين ؟ فقلتم فضيلتكم: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض.. فاعتبرت هذا إذنًا !
قال الأمام: إن طلبك الإذن كان تلاعبًا بالألفاظ, فلم يكن إلا مسألة عامة تطلب فيها فتوى عامة، أما موضوع الخازندار فهو موضوع محدد لا بد من الأذن الصريح فيه، ثم إنك ارتكبت عدة أخطاء: لم تعرض الأمر على مجلس النظام، ولم تطلب إذنًا صريحًا, وقتلت رجلاً يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، واعتبرته يحكم بغير ما أنزل الله وهو يحكم بالقانون المفروض عليه من الدولة، ولو افترضنا أنه كان قاسيًا, فإن القسوة ليست مبررًا للقتل.
وأثناء حديثه كانت الدموع تنساب من عينيه إلى لحيتيه وهو في غاية التأثر-وكانت أول مرة أرى فيها دموع الإمام البنا- ثم قال: إن كان قتلك للخازندار قد تم بحسن نية فإن علينا الدية"، ولكن الحكومة دفعت تعويضًا كبيرًا لأسرة الخازندار, فأسقطت الدية عن الإخوان.
إن الإخوان المسلمين كجماعة إسلامية لا تقر الاغتيالات السياسية، وتنظيمهم الخاص كان مخصصًا لأعمال الجهاد في سبيل الله, فهو – كتنظيم – بريء كل البراءة من هذا الحادث الذي يقع وزره على رئيس النظام وحده، لهذا كان استنكار الأمام لهذا الحادث علنًا أمام إخوانه جميعًا"(11).
الزواج
وعن قصة زواجه بالدكتورة هدي حلمي يقول الدكتور محمود عساف: "كنت في الكلية عضوًا بشعبة الإخوان المسلمين منذ عام 1941م، وكان رئيسها زميلي محمد يونس الأنصاري الذي دعاني لزيارة المركز العام، ذهبت معه والتقينا بالإمام الشهيد، وكانت تلك أول مرة أجلس معه ونتبادل الحديث، سألني عن أحوالي، وعما إذا كنت أفكر في الزواج, فأخبرته بأني لم أجد بعد ما يوافقني.
فقال: ابحث بين الأقارب.
فقلت: لي ابنة خال، ولكنها صغيرة في السن.
فقال: انتظرها وتوكل على الله، فانتظرتها.. وبعد عام سألني عنها: كيف هي؟
فقلت: بخير.
قال: أتحبها؟
قلت: نعم.
قال: أتحبك؟
قلت: أعتقد ذلك.
قال: أفصح لها عن حبك.
وعند زواجي في 11 نوفمبر 1948م أوفد الإمام الشهيد نيابة عنه الأستاذ عبد الحكيم عابدين ليعقد القران، وحضر فريق التمثيل بشعبة السيدة عائشة وأحيا حفل الزواج، وكانت ليلة لم تر لها قريتنا مثيل من قبل"(12)، وكان ذلك قبل حل جماعة الإخوان المسلمين بثمانية وعشرين يومًا.
وللدكتور محمود عساف ثلاثة من الأبناء: أكبرهم وفاء –رحمها الله- يليها الدكتور هاني ثم الدكتور أيمن.
قرار حل جماعة الإخوان المسلمين
يقول الدكتور محمود عساف: "عندما قررت حكومة النقراشي حل الإخوان المسلمين استجابة لتعليمات الملك والإنجليز كان الإمام حسن البنا حريصًا على مقابلة الملك فاروق بأي وسيلة ولو في السر، وقال لي إنه إذا تيسر له مقابلة الملك فإنه قادر بعون الله تعالى على قلب الميزان المعوج وجعله في صالح الإخوان.
عرضت عليه أن يتقابل مع سمير بك ذو الفقار- من مخابرات الملك- لأنه القادر في ذلك الوقت على تدبير اللقاء الخاص، ورتبت موعدًا في مكتبي بشركة الإعلانات العربية, وحضر الأستاذ الإمام في الموعد كما حضر سمير بك ذو الفقار كذلك، عرفتهما يبعضهما ثم تركتهما يتحدثان بحرية وخرجت من الغرفة، بعد أن انتهى اجتماعهما عدت إليهما, فوجدت عيني سمير بك مغرقة بالدموع وانصرف واعدًا الأستاذ بأنه سيعمل كل ما في وسعه لكي تتم المقابلة المنشودة، ولكن للأسف كانت الأحداث أسرع مما توقع, وصدر قرار حل الإخوان بعد يومين من هذا اللقاء"(13).
يوم أن صدر قرار حل الإخوان المسلمين في 8 ديسمبر 1948م حضرت قوة من الشرطة إلى مقر شركة الإعلانات العربية برقم 53 شارع إبراهيم باشا, واقتادوا جميع موظفي الشركة إلى قسم الأزبكية، ثم أفرج عن الأستاذ محمود عساف في اليوم التالي، ثم قبض عليه مرة أخرى يوم 10 ديسمبر 1948م وأودع في قسم الزيتون لمدة يوم واحد، ثم إلى معتقل الهايكستب ثم إلى الطور.
معتقل الطور
يقول الدكتور محمود عساف: "عندما وصلنا إلى معتقل الطور وكان عددنا حوالي 500 معتقلاً من الإخوان, حشرنا في الحذاء رقم (5) والحذاء هو عبارة عن صفين من الغرف على اليمين وعلى اليسار, وبينهما ساحة واسعة, وبين كل مجموعة من الغرف دورة مياه, ويوجد مكان مخصص للمطبخ الجماعي, ويحيط بالجميع سور من الأسلاك الشائكة.
وفي ذات اليوم الذي وصلنا فيه إلى الطور على الباخرة عايدة كان معنا حوالي 100 من اليهود, هم على السطح ونحن داخل عنبر سفلي كبير, ونقلوهم فور وصولهم إلى الحذاء رقم (6), وكان بين الحذاء والأخر أرض فضاء واسعة، وبعد أيام جاء الشيوعيون المعتقلون, واحتلوا الحذاء رقم (7), وكان عددهم حوالي 200 شيوعيًا.
اختارني الإخوان كضابط اتصال مع الشيوعيين واليهود, حيث كنت أعرف بعض هؤلاء وأولئك؛ وذلك بغرض تنسيق المطالب التي نتقدم بها لإدارة المعتقل, بحيث يكون ما نطلبه من الإدارة مؤيدًا من الأطراف الثلاثة"(14).
استشهاد الإمام البنا
وهكذا صار الإخوان المسلمون رهين المعتقلات، وبقي الإمام البنا وحيدًا يجاهد في سبيل إلغاء قرار الحل، فامتدت يد الإثم واغتالته بدم بارد.
يقول الدكتور محمود عساف: "في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليلة 12 فبراير 1949م سمعنا في الراديو الذي كنا قد هربناه داخل الحذاء رقم (5) بمعتقل الطور, ووضعناه في الغرفة التي بها مصطفي مؤمن ذلك الخبر المشئوم الذي أذاعته محطات صوت أمريكا.
استيقظ من كان نائمًا من الإخوان, وبكى الجميع وعلا النحيب, ونحن مقهورون داخل أسلاك شائكة لا نقدر على شيء، واستمر الإخوان واجمين يتابعون الإذاعات ليعرفوا تفصيل ما حدث.
قال بعض الإخوان: ما كان لحسن البنا أن يموت على فراشه كيفية الناس, بل كان ينبغي أن يموت شهيدًا، لا بل قتيلاً تتآمر عليه حكومة بكل قوتها وعنفوانها وضباطها وجنودها وسياسييها, فهو يشرف بأن يموت شهيدًا, ويزيده شرفًا أن قاتله دولة بأكملها.
وقالت الإذاعات الأجنبية بعد ذلك إن الذي قتل الإمام ضباط القلم السياسي، وقالت إذاعات أخرى أن الذي قتله هم حراس النقراشي ورجال الحزب السعدي انتقامًا لمقتل زعيمهم"(15).
في مجال العمل
خرج الدكتور محمود عساف من المعتقل في يناير 1950م, وقد اعتقل لمدة 13 شهرًا، بدأت في اليوم الثامن والعشرين لزواجه الذي تم في 11 نوفمبر 1948م، وبعد خروجه عمل مديرًا لمصنع صابون شاهين، ثم مديرًا تجاريًا بشركة مصر للمستحضرات الطبية التي كانت تعاني من الخسائر الكبيرة، ومهددة بالإفلاس، فوضع الدكتور محمود عساف تنظيمًا جديدًا للمبيعات يقضي بتقسيم مصر إلى 8 مناطق بالإضافة إلى توكيل بالإسكندرية والبحيرة.
وقد اختار مندوبين -بناء على إعلان- بمواصفات معينة، وراتب صغير من 10 إلى 12 جنيهًا, وعمولة 3 % بحيث يصلح المندوب للبيع والدعاية في آن واحد؛ وذلك لتلافى إلقاء مندوب الدعاية العجز في المبيعات على مندوب البيع في حين يلقي مندوب البيع التبعية على إهمال مندوب الدعاية، وبعد شهر قفزت المبيعات من 3 آلاف جنيه شهريًا إلى 6 آلاف, ثم 9 آلاف إلى أن وصلت إلى 30 ألفًا شهريًا في نهاية العام.
"وفي عام 1954م جاءني الأستاذ فرج حنفي مندوب الإعلانات بدار الهلال, يدعوني لمقابلة وجيه أباظة رئيس مجلس إدارة شركة النيل للإعلان, وكان فرج قد انتقل للعمل بها، وأبلغني أن الشركة في حالة سيئة, وأن مندوبي الإعلانات – الذين يعرفونني من قبل – قد رشحوني لإدارة الشركة.
وكانت شركة النيل للإعلان هي باكورة شركات الثورة, وافتتحها قبل ذلك بعام الرئيس عبد الناصر، وكان وجيه أباظة حتى ذلك الوقت يعمل مديرًا لإدارة الشئون العامة للقوات المسلحة.
جلست في الشركة حتى نهاية عام 1954م أحاول إصلاح حالها, واستطعت بفضل الله مع الجد والمثابرة أن أحول خسائرها من 3000 جنيه شهريًا إلى أرباح قدرها 250 جنيهًا"(16).
رفض عودة التنظيم الخاص
بعد ثورة 1952م، وأثناء الأزمة بين عبد الرحمن السندي والمرشد العام المستشار حسن الهضيبي "حضر إليّ رئيس النظام عبد الرحمن السندي إلى منزلي وسألني: هل أنت معنا أم لا؟
قلت: من أنتم؟ إن كنت تقصد الإخوان المسلمين فأود أن أقول لك إننا بايعنا الإمام حسن البنا، وبعد وفاته سقطت البيعة، والبيعة عقد, لهذا ينبغي الاتفاق على شروط عقد جديد، وهناك أشخاص يعملون في الجماعة وأنت تعلم أني اشترطت عليك – لكي لا أبلغ الإمام بما يفعلون – أن تبعدهم عن الإخوان ولو بالتدريج، وهؤلاء الآن يتصدرون الجماعة بعلمك وموافقتك.
أما إن كنت تقصد النظام الخاص, فأريد أن أعرف أولاً ما هي أهدافه؟ لقد كان له هدفان: فلسطين والاستعمار البريطاني، والآن توجد حكومة وطنية نابعة من الشعب، ومعظم أعضائها من صميم الإخوان, وهم مخلصون -حتى ذلك الوقت عام 1953م- وفلسطين قد انتهى أمرها بإعلان قيام دولة إسرائيل واعتراف العالم بها, والاستعمار البريطاني موكول الآن إلى الحكومة الوطنية، فما هو هدف النظام الخاص الآن؟ ثم إن جميع قيادات النظام الخاص ومعظم أفراده قد انكشفوا للحكومة, والتحقيقات السابقة معهم جعلتهم يعترفون على بعض! فهل النظام هو هدف في حد ذاته؟
لم يرد علي عبد الرحمن وقال: إذًا أنت لست معنا.. وانصرف.
وفي نهاية 1953م طُلبت للاجتماع بمكتب الأستاذ عبد القادر عودة وكيل الإخوان بميدان الأوبرا, وكنت قد توقفت عن ممارسة أي نشاط مع الإخوان جهرًا أو سرًا, وقيل أثناء الاجتماع إن أربعة من زعماء النظام الخاص قدموا استقالاتهم من الإخوان، وأنهم يحاربون المرشد العام الأستاذ الهضيبي, وأن هذا الموضوع سيبحث بعد أيام في اجتماع آخر في بيت أحد قادة النظام.
دعيت إلى هذا الاجتماع, وسمعت فيه من الأعضاء المستقيلين سبابًا في المرشد العام, الأمر الذي يتنافى مع أبسط قواعد الأدب, وأخذوا يشرحون موقفهم، وقبلت استقالاتهم، ثم قال أحد المجتمعين: علينا أن نعين رئيسًا جديدًا للنظام، وإذا بي أفاجأ بأن الشخص الذي كنت قد اشترطت على عبد الرحمن يالسندي إبعاده عن نشاط الإخوان يرشحني أنا لقيادة النظام، فاعتذرت لأني غير مقتنع بفكرته، بل أنا ضد وجوده، فرشح الشيخ فرغلي الشهيد يوسف طلعت.. وقد كان.
ولم تمر شهور حتى قبض على قادة وأعضاء النظام, وقدموا للمحاكمة, وأعدم الشيخ فرغلي والأستاذ يوسف ضمن الشهداء الستة الذي أعدموا.. لا شك أن عبد الناصر كان على علم بدقائق مجريات الأمور داخل تشكيلات الإخوان المسلمين, بل ويعلم موقفي لأنه لم يوجه لي أي اتهام"(17).
اعتقال ليوم واحد
وقع الصدام بين الإخوان المسلمين وجمال عبد الناصر في عام 1954م حين كان الدكتور محمود عساف مديرًا عامًا لشركة النيل للإعلان التابعة للحكومة, وألقي القبض عليه, واقتيد إلى قسم قصر النيل في حي الزمالك، وأودع في زنزانة في الدور تحت الأرضي، ولم يكن يعلم سبب القبض عليه، ولم يكن له أي نشاط مع الجماعة.
يقول الدكتور محمود عساف: "أفقت في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي جاء الحارس وطلب مني الخروج، ومعي أشيائي التي كنت قد أحضرتها من المنزل, وقادني إلى غرفة المأمور, الذي قام مرحبًا بي ومعتذرًا عن سوء المعاملة، ووجدت معه الأستاذ صلاح عبد المجيد الصديق الصحفي, ومحيي ترك صديقي, ومحمد هلال مدير مكتب وجيه أباظة رئيس مجلس إدارة الشركة التي أديرها.
قال لي محمد هلال: إن قائد الجناح وجيه أباظة اتصل بعلي صبري مدير مكتب عبد الناصر, وأبلغه أنه إذا تم حبسي أكثر من ذلك فإن الشركة سوف تتعرض للفشل ثم إلى التصفية، وبعد دقائق دق جرس التليفون ورد عليه المأمور, ثم قال: حاضر يا أفندم، ثم قام يعانقني ويودعني بسلامة الله"(18).
مع السادات
وقعت القطيعة بين الدكتور محمود عساف وبين وجيه أباظة، فطلب محسن عبد الخالق عضو مجلس الإدارة المنتدب لدار التحرير للطبع والنشر التي يرأسها أنور السادات والتي تتبعها شركة الإعلانات المصرية يريد مقابلة الدكتور عساف، فانتقل للعمل فيها مع السادات، وقد أثنى عليه وعلى نزاهته وقدرته على إدارة الأمور كثيرًا، ثم صدر قرار من الرئيس عبد الناصر بتعيين وجيه أباظة عضوًا منتدبا لدار التحرير، وأشيع أن وجيه أباظة سيفصل الدكتور عساف من دار التحرير.
يقول الدكتور محمود عساف: "فجلست في مكتبي ذلك اليوم واليوم التالي لا أفعل شيئًا، وانتظر ذلك القرار، ولست أدري كيف عرف أنور السادات بهذا الأمر، إذ استدعاني فذهبت إليه فقال: فيه إيه يا عساف؟
قلت: لا شيء.
قال : لا بل هناك أشياء، قل لي ماذا حدث ؟ فحكيت عليه ما سمعته.
فقال: يا عساف أنت تعمل مع أنور السادات.. وطرق المكتب بشدة بقبضة يده، وقال: اعلم أنه إذا أصابك بأي سوء فسأنسفه.. اذهب إلى عملك مطمئن البال"(19).
في الشركة العربية للإعلان والنشر ببيروت
يقول الدكتور محمود عساف: "أثناء عملي مديرًا لشركة الإعلانات المصرية حضر إلى مكتبي الضابط محمد أحمد غانم وبصحبته الضابط حسن بلبل -وكيل وزارة الخارجية فيما بعد- وطلبا مني الموافقة على أن أعار مديرًا عامًا للشركة العربية للإعلان والنشر ببيروت؛ حيث إن هذه الشركة تملك المخابرات المصرية رأسمالها, وتعرضت إلى خسارة كبيرة, وأنه تقرر أن تدار على أساس اقتصادي فحسب، فوافقت على ذلك.
وقد رتب لي مقابلة مع السيد شعراوي جمعة المسئول عن المخابرات العامة في ذلك الوقت، وأوضحت للسيد شعراوي شروطي وهي أنه لا علاقة لي بنشاط المخابرات لا بطريقة مباشرة ولا غير مباشرة, وأنه ينبغي أن أعرف الأشخاص الذين يعملون بالشركة من جهاز المخابرات حتى أتيح لهم الفرصة لأداء عملهم الأصلي, ولا أحرج نفسي مع أحدهم إذا تغيب عن العمل لسبب لا أعرفه، فوافقني على ذلك.
وسافرت إلى بيروت، وأدرت الشركة, واستطعت بفضل الله أن أوقف خسارتها, ثم أنشأت فرعًا لها في دمشق، وآخر في بغداد، وثالثًا في الكويت، وبعد ذلك نقلنا المركز الرئيسي إلى دمشق, ثم بعد الوحدة بين مصر وسوريا نقلنا المركز إلى القاهرة"(20).
يفرج عنه مؤقتًا
في عام 1965م قامت حكومة عبد الناصر باعتقال الإخوان وكل من انتمى إليهم في يوم ما, وكان القرار الغريب "اعتقال كل من سبق اعتقاله" غير آخذة في الاعتبار بما إذا كان للمعتقل نشاط مع الإخوان أم لا، فاعتقلوا الشيخ الغزالي والشيخ السيد سابق وعبده قاسم وأحمد فراج، وغيرهم كثير ممن انقطعت صلته بالإخوان المسلمين.
يقول الدكتور محمود عساف: "وقد اعتقلوا شقيقي علوي من منزله القريب من منزلي، فقلت في نفسي: لا بد أن يكون الدور عليّ، فأبلغت الأخ الأستاذ سعد نصار المستشار القانوني للشركة بما حدث لعلوي وتوجسي مما أتوقعه.
وفي اليوم التالي كنت جالسًا مع سعد نصار, فجاء سكرتيره يقول: إن شخصًا بالباب يريدني, فخرجت فقال: أنا النقيب فلان من المباحث العامة.
قلت: تفضل.. فدخل
سألته أهو اعتقال؟
قال: نعم.
قلت لسعد: لقد حدث ما توقعته.
وكان محمد غانم رئيس مجلس إدارة الشركة مسافرًا في الإسكندرية، وتعذر الاتصال به، فطلب سعد نصار من الضابط أن يجلس قليلاً, فجلس على مضض، فاتصل سعد بالعميد حسن خليل رئيس المباحث الجنائية العسكرية شارحًا له الأمر، ومبلغًا إياه بأني عضو مجلس إدارة الشركة وزميل محمد غانم -الذي يعرفونه جيدًا، ويعلمون بصلته بعبد الناصر- فقال حسن خليل: دع الضابط ينتظر قليلاً إلى أن يكلمه رئيس المباحث العامة اللواء حسن طلعت، وقد كان.. فبعد دقائق تكلم اللواء حسن طلعت مع الضابط، ثم انصرف الضابط وهو متجهم الوجه، وعلمت بعد ذلك أن اللواء حسن طلعت اتصل بعلي صبري الذي قال له: يفرج عنه مؤقتًا دون اعتقال، وظل هذا الإفراج المؤقت إلى يومنا هذا"(21).
في سلك التدريس الجامعي
بتعيين الشيخ الباقوري رئيسًا لجامعة الأزهر ومستشارًا دينيا لرئاسة الجمهورية بدأت مرحلة التدريس الجامعي في حياة الدكتور محمود عساف؛ فقد عرض عليهالباقوري أن يعمل أستاذًا بكلية المعاملات الإسلامية –التجارة- تمهيدًا لتعيينه عميدًا للكلية، وعلى الرغم من أن مرتب الدكتور عساف في شركة النصر للاستيراد والتصدير 270 جنيهًا، وأن أقصى مرتب يمكنه الحصول عليه في الجامعة 150 جنيهًا إلا أنه قبل أداء هذه الرسالة دون الالتفات إلى المقابل المادي.
إلا أن هذه التضحية من جانب الدكتور عساف قوبلت بغضب عارم من أساتذة الأزهر الذين رفضوا القرار وطالبوا بإلغائه، وتطور الأمر إلى اتهام الدكتور عبد العزيز كامل وزير الأوقاف وشئون الأزهر بأنه أحضر الدكتور عساف لأنه صديقه القديم في جماعة الإخوان، فأوقف الدكتور عبد العزيز كامل قرار التعيين، فغضب الشيخ الباقوري لذلك، وقام بجمع مجلس الجامعة الذي أصر على تعيين الدكتور عساف.
"فاعترضت على ذلك؛ فإني لا أحب أن أبدأ عملاً في جو مضطرب كله مؤامرات، وبيت ثلاثة أيام آسفًا على ما حدث، بخاصة أني قد أعددت برنامجًا لأسلمة بعض المواد كالإدارة والتسويق والتمويل وشئون العاملين، وأفكارًا حول الاقتصاد الإسلامي والمحاسبة في المعاملات الإسلامية"(22).
بعد هذه الأزمة تدخل الدكتور عبد العزيز حجازي –وزير المالية ورئيس الوزراء فيما بعد- مقترحًا على الدكتور عساف التدريس بكلية التجارة جامعة عين شمس فرع الزقازيق المنشأة حديثًا، فوافق الدكتور عساف وعين أستاذًا لكرسي إدارة الأعمال بالزقازيق.
كانت علاقة الدكتور عساف بالطلاب في الكلية علاقة أبوية؛ إذ كان يؤمن بأن الأستاذ والد للطالب وليس معلمًا فحسب، وكان يعمل على حل مشاكل الطلاب حتى العائلية منها؛ لذلك كانت علاقته بأولياء أمورهم حميمة، وقد ذكر الدكتور عساف عدة مواقف تجلت فيها هذه العاطفة، ومنها:
"في أثناء محاضرتي لطلاب السنة الأولى جاء طالب ووضع ورقة على مكتبي في المدرج، قرأتها في غرفتي بعد المحاضرة, فوجدتها شكوى من أحد الطلاب يقول: إنه من بلدة تسمى العصلوجي, وهي تبعد عن الزقازيق بحوالي 4 كيلو مترات, وأن والدته تعمل غسالة وخادمة ببيوت الأثرياء من أهل القرية, وأنها تتكسب ما يكفي الأسرة من طعام بالكاد, وأنه لفقره يحضر إلى الكلية ماشيًا ويعود إلى بلدته ماشيًا كذلك, وأنه لا يجد موردًا يسدد منه رسوم الكلية, وتقدم بطلب للعميد لكي يسمح له بقرض من بنك ناصر يسدد منه الرسوم، وكان بنك ناصر يمنح الطلاب قروضًا حسنة يسددونها بعد تخرجهم على أقساط، فأفاده العميد أن القرض يمنح للطالب المقيد بالكلية فحسب, وهو غير مقيد إلا بعد سداد الرسوم، طلب مني الطالب أن أتوسط له عند العميد لكي يسمح له بالقرض حتى يسدد الرسوم منه وقت استلامه تمامًا.
بحثت في جيبي فوجدت خمسة عشر جنيهًا، وكانت حالتي المالية حرجة؛ حيث نقص مرتبي بمبلغ 120 جنيهًا، فطلبت الأستاذ مسلم فايد مسجل الكلية, وأعطيته عشرة جنيهات, وقلت له: اطلب الطالب صاحب الورقة في الميكرفون, وسدد له الرسوم, ثم اصحبه معك إلى السكة الحديد، واقطع له اشتراكًا من الزقازيق إلى العصلوجي والعودة, وإن بقى معك شيء بعد ذلك فأعطه للطالب، وأرجوك ألا تسمح للطالب بأن يحضر لي لشكري؛ حيث لا أحب أن أعرف شكله أو أشعره بأي حرج لو التقى معي في المحاضرة أو في فناء الكلية.
عاد الأستاذ مسلم إلي بعد 3 ساعات، أراني إيصال سداد الرسوم والاشتراك, وقال إنه بقى معه جنيه ونصف فأعطاه للطالب"(23).
وكان لغياب هذه العاطفة بين الأساتذة والطلاب، واهتمام بعض الأساتذة الزائد بتحصيل الماديات أثر سيء على مسيرة التعليم الجامعي، وافتقاد الثقة بين الأستاذ والطالب، وغياب الاحترام والتقدير الذي وصل إلى إهانة الأساتذة وسبهم، فما أحوجنا لاستعادة هذه العاطفة الأبوية في جامعاتنا المصرية.
وفي أحد الأيام اتصل الدكتور حسن توفيق مدير عام المنظمة العربية للعلوم الإدارية التابعة للجامعة العربية بالدكتور محمود عساف وطلب زيارته للتحدث في أمر هام، ثم كلفه مع الدكتور عبد المنعم محمود أستاذ المحاسبة بتجارة القاهرة بالسفر إلى عدن باليمن الجنوبي لإنشاء كلية التجارة بها.. وقد كان.
كلية التجارة جامعة المنصورة
بعد أن انتهي الدكتور محمود عساف من تأسيس قسم إدارة الأعمال بكلية التجارة بالزقازيق, وزوده بالمدرسين والمعيدين, وشرع في نقل أحد الأساتذة إليه من المع