التشويق إلى البيت العتيق
شوقي إلى الكعبة الغراء قد زادا
فاستحمل القُلُص الوَخَّادة الزادا
أذَّن إبراهيم - عليه السلام - في الناس بالحج فأجابوا، ودعاهم فلبَّوا..جاؤوا إليه رجالاً على أرجلهم، وركباناً على كل ضامر، جاؤوا للحج من كل فجٍّ، الشوق يحدوهم، والرغبة تسوقهم.. كتب لهم التوفيق فكانوا: مِنَ النَّاسِ، حيـث اخـتارهـم الله فأسمعـهم دعوة إبراهيم - عليه السلام - حين نادى: ﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ ﴾ [إبراهيم: 73]. قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: لو قال: (أفئدة الناس) لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال: مِنَ النَّاسِ فاختُصَّ به المسلمون[1].
وليس المسلمون على درجة واحدة؛ إذ (النفوس تتفاوت في هذا الشوق؛ فيزيد شوق من قَوِيَ إيمانه على من ضعف)[2] ، ومن المسلمين محروم وقد أسمعهم الداعي﴿ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ [التوبة: 76].
فإذا رأيـت الـحاج يـمَّم وجـهه للبـيت فقل لي بربِّك هل مرَّ بك ركب أشرف من ركبهم؟ وهل شممت عبيراً أزكى من غبار مسيرهم؟ وهل هزَّك نغم أروع من تلبيتهم؟ لقد كان شوق السلف الصالح للبيت - مع بُعْد الشقة، وشدة المشقة، وقلة الظهر، وصعوبة الحال - شيئاً لا يُوصف، بل زاد فـي بعضـهم الشـوق حتـى غشي عليه أو مات[3].
فخذ مـن خبرهم ما يبعث فيك الرغبة، ويحرك في قلبك الشوق:
• كان خروج الحاج يهيج في جوانحهم الرغبة، ويبعث في نفوسـهـم الحزن؛ لعـدم القـدرة على اللِّـحاق، يخشون أن يكون ذلك على وجـه الحـرمان وكره الانبـعاث، بينا تجد مـن ذوي اليسار والقـدرة من لم يحج وقد بلغ الحلم بل جاوزه بعقود!
خرجت أم أيمن بنت علي - امرأة أبي علي الروذباري -من مصر وقت خروج الحاج إلى الصحراء، والجِمالُ تمر بها.
وهي تبكي وتقول:
وا ضعفاه! وتنشد على إثر قولها:
فقـلـت:
دعوني واتباعي ركابكم
أكنْ طوع أيديكم كما يفعل العبدُ
وما بال زعمي لا يهون عليهم
وقد علموا أن ليس لي منهم بدُّ
وتقول: هذه حسرة من انقطع عن البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن ربِّ البيت[4]؟!
وكان السلطان (أبو الفتح ملكشاه) ابن السلطان (ألب أرسلان) صاحب لهوٍ وصيد وغفلة.. صاد يوماً من الأيام صيداً كثيراً فبنى من حوافر الوحش وقرونها منارة، ووقف يتأمَّل الحجاج وهم يقطعون أرض العراق يريدون البيت الحرام، فرقَّ قلبه فنزل وسجد وعَفَّرَ وجهه وبكى[5].. لقد رقَّ قلبه لما رأى الحجيج يجوزون من حوله، فكيف لو كان معهم؟! كيف لو أجلّته ثياب الإحرام فكان يطوف معهم ويسعى ويقف بعرفة ويجمع بجُمع ويبيت بمنى؟!
دع المطايا تنسم الجنوبا
إن لها لنبأً عجيبا
حنينها وما اشتكت لغوبا
يشهد أن قد فارقت حبيبا
• أمَّا إذا وصـلوا البيـت فالشـأن آخـر، وحكايـة حالهم قد تكون أدق في الوصف وأجلى للخبر.
حجَّ الشبلي، فلما وصل إلى مكة جعل يقول:
أبطحاء مكة هذا الذي
أراه عياناً وهذا أنا
ثم غشي عليه، فأفاق وهو يقول:
هذه دارهم وأنت محب
ما بقاء الدموع في الآماق [6]
وعن عبد العزيز بن أبي روّاد قال: دخل مكة قومٌ حجاج ومعهم امرأة وهي تقول: أين بيت ربي؟ فيقولون: الساعة ترينه. فلما رأوه قالوا: هذا بيت ربك، أما ترينه؟ فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي! بيت ربي! حتى وضعت جبهتها على البيت! فو الله ما رفعت إلا ميتة[7].
ما بال قلبي لا يقر قراره
حتى تُقَضَّى من مِنَى أوطاره
وبقية في الآخرين:
فإذا كان التـاريخ قد حفظ لنا ثلة من الأولين، قد تقطّـعت قـلوبهـم شـوقاً للبـيت ورغبة في الحج، ففي الآخرين ثلّة أيضاً، لم تلهـهم تجـارة، ولم تفـتنهم حضارة، فسبحان من يلقي الشـوق والرغـبة في قلـب من شاء من عباده! قال الشيـخ إبراهيم الدويِّـش[8]: (ذكر لي أحـد الثـقات العاملين على استقـبال الحـجاج في مدينـة جدة أن طائرة تحمل حجاجاً من إحدى الدول الآسيوية وصلت في ثلث الليل الأخير أحـد الأيام. قال: كان أول الوفـد نزولاً امرأة كبيرة السن فما أن وطئت قدماها الأرض إلا وخرَّت ساجدة. قال: فأطالت السجود كثيراً حتى وقع في نفسي خوف عليها. قال: فلما اقتربنا منها وحركناها فإذا هي جثة هامدة. فعجبت من أمرها وتأثرت بحالها فسألت عنها فقالوا: منذ ثلاثين سنة وهي تجمع المال درهماً درهماً لتحجَّ إلى بيت الله الحرام).
يا رفيقيَّ قفا لي فانظرا
إن عَيْنِي لدموعي لا ترى
هل خبت نارهمُ أو أوقدت
أو جرى واديهمُ أو أقفرا؟!
للهِ مـا أعظم خـبر النفوس الراغبة، والقلوب الطاهرة! ولِمَ لا يعظم الشوق إلى البيت، وتعظم الرغبة في الحج، والأجر عظيم، والرب كريم؟! فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عـن النـبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مـا أهـلَّ مُهِلٌّ قـط ولا كـبَّر مكبِّر قط إلا بُشِّر بالجنة»[9]. وعنه - صلى الله عليه وسلم -: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»[10]. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما ترفع إبل الحاج رِجلاً ولا تضع يداً إلا كتـب الله - تعالى - بها حسـنـة، أو محا عنه سيئة، أو رفعه بها درجة»[11].
ردّوا لها أيامها بالغميمِ
إن كان من بعد شقاء نعيمِ
ولا تدلوها فقد أمَّها
أدلة الشوق وهادي الشميمِ
وبعـد:
فـيا مـن صـدَّ عن الخير، وانقطع به السير! أَمَا هزَّك الحادي؟ أَمَا أسمعك الداعي؟ يا مسكين! اشتاقت العجماوات وما اشتقْتَ، فأسرعتِ السير وأبطأتَ.
ركب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ناقة إلى الحج فأسرعت به فأنشد:
كأن راكبها غصن بمروحة
إذا تدلت به أو شارب ثملُ[12]
عجبٌ والله من إبل تحنُّ شوقاً ما هي بالعاقلة، وأنت عاقل! لكن الله هدى: ﴿ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [غافر: 33].
نوق تراها كالسفين
إذا رأيت الآل بحرا
كتب الوجا بدمائها
في مهرق البيداء سطرا
فكأن أرجلهن تطلب
عند أيديهن وترا
أما المـحرومـون فلهـم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، وَصَلَهم الأذان ولم تصل منهم الإجابة، هانَ عليهم السفر إلى كل بقعة إلا خير بقعة، عرفوا كل طريق إلا طريق مكة، سلكوا كل فجٍّ إلا طريق الحج، اكتفوا بالحرام عن لبس الإحرام، شغلهم الهوى عن الهدى، فأيُّ حرمان بعد هذا؟! وأيُّ خسارة يوم يعود الناس بالغفران ويبوء أولئك بالخسران؟!
زار الحجيج منى
وزار ذوو الهوى
جسر الحسين
وشعبه واستشرفوا
فبادر الحـجَّ؛ فالفُـرَصُ فـواتـة، والعمر ينقضي، والأحوال قُلَّب. وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة»[13].
اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم.
[1] تفسير ابن كثير: 4/514، ط دار طيبة، الرياض.
[2] هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المسالك، ابن جماعة، 1/283، ط ابن الجوزي.
[3] وليست هي الأهدى ولا الأتم، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مع الكمال لم يحصل منهم ذلك، بل كانت أحوالهم - كما حكى الله في القرآن - متمثلة في وجل القلب، ودمع العين، واقشعرار الجلد. ومع هذا فحال هؤلاء لا تذم إذا كان مخرج فعلهم الصدق، قال شيخ الإسلام: (وقد يذم حال هؤلاء من فيه قسوة القلوب والرين عليها، والجفاء عن الدين، ما هو مذموم، وقد فعلوا، ومنهم من يظن أن حالهم هذه أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم. بل المراتب ثلاث: أحدها: حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب، لا يلين للسماع والذكر، وهؤلاء فيهم شبه من اليهود، والثانية: حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه، فهذا الذي يصعق صعق موت، أو صعق غشي؛ فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد، وضعف القلب عن حـمله، ولكن مـن لم يزُل عقـله مـع أنه حصـل له مـن الإيمـان ما حصـل لهم أو مثله أو أكمـل، فهـو أفضـل منـهم، وهـذه حال الصحابة - رضي الله عنهم - ، وهي حال نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أسري به إلى السماء وأراه الله ما أراه وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله، فحاله أفضل من حال موسى - عليه السلام - الذي خرَّ صعقاً لما تجلى ربه للجبل، وحال موسى - عليه السلام - جليلة عليَّة فاضلة، لكن حال محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل وأعلى وأفضل.. ) (مجموع الفتاوى11/ 8-13)، وأياً كان؛ فحالهم وإن لم تكن الأفضل تحكي الرغبة والشوق، ومن لم يعش حالهم فليس يدري سر ما وقع بهم:
من لم يبت والهم حشو فؤاده
لم يدرِ كيف تفطر الأكبادُ
[4] مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي، 1/121. وصفة الصفوة: 4/273.
[5] نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء: 3/1329.
[6] مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي، 1/389.
[7] صفة الصفوة: 4/335.
[8] شريط (عرفات عبر وعبرات).
[9] صحيح الجامع الصغير (5569).
[10] البخاري (1819).
[11] صحيح الجامع الصغير (5596).
[12] مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي، 1/132.
[13] صحيح الجامع الصغير (6004).
العبد الفقير الى الله
حامد عباس
مصرى حر