تطهير البيت
يقول - سبحانه -: ﴿ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125]، فالله - تعالى - حينما يَنسب لنفسه البيت، فيقول: (بيتي)، ليس معنى هذا أنه يأوي في هذا البيت، أو أنه بحاجة لهذا البيت؛ وإنما المقصود مِن ذلك هو أن هذا البيت هو بيت كل ما يَحتاج لمأوى، فهذا البيت يَأويه، وهكذا يُنشئ الإسلام المؤسَّسة الاجتماعية التي تأوي كل محتاج، والمؤسَّسة النورانية التي تَهدي كل ضال، والمؤسَّسة الروحية التي يتوب فيها كل عاصٍ.
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - يقول يوم القيامة: يا بن آدَم، مرضتُ فلم تعدْني! قال: يا ربِّ، كيف أعُودك وأنت ربُّ العالَمين؟! قال: أما علمتَ أن عبدي فلانًا مَرض فلم تعدْه؟ أما علمتَ أنك لو عُدتَه لوجدتَني عنده؟ يا بن آدم، استطعمتُكَ فلم تُطعِمني! قال: يا رب، وكيف أُطعِمُك وأنتَ رب العالمين؟! قال: أما علمتَ أنه استطعمَك عَبدي فلان فلم تُطعمه؟ أما علمتَ أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا بن آدم، استسقَيتُك فلم تَسقِني! قال: يا ربِّ، كيف أسقيك وأنت ربُّ العالَمين؟! قال: استَسقاك عبدي فلان فلم تَسقِه، أما أنك لو سقَيته وجدتَ ذلك عندي))[1].
♦ وقصة بناء البيت تدلُّ على أنه مكان يَأوي إليه كل عابر سبيل، حتى استوطنوا هذا المكان بعد أن عمَّ فيه الزرع وانتشَر فيه الرخاء، ثم أصبح كذلك مَقصدًا يَقصِده الحُجاج؛ لأداء شعيرتَي الحج والعمرة، وهنا لا بدَّ مِن التهيئة النفسية للمكان الذي يَقصده الناس للعبادة والتطهر مِن الذنوب والآثام؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حجَّ لله فلم يَرفث ولم يَفسُق، رجَع كيوم ولدته أمُّه))[2]، يقول ابن عاشور التونسي: "المراد مِن تطهير البيت ما يدلُّ عليه لفظ التطهير مِن محسوس؛ بأن يُحفَظ مِن القاذورات والأوساخ؛ ليَكون المتعبِّد فيه مُقبِلاً على العبادة دون تَكدير؛ فعن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى نخامةً في القِبلة، فشقَّ ذلك عليه حتى رُئي في وجهِه، فقام فحكه بيده فقال: ((إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يُناجي ربَّه، أو إن ربه بينه وبين القِبلة؛ فلا يَبزقنَّ أحدكم قِبَل قِبلته))[3]"، ويقول كذلك: "إنه يدلُّ على التطهير المعنَويِّ، وهو أن يُبعد عنه ما لا يَليق بالقصد مِن بنائه مِن الأصنام والأفعال المنافيَة للحق كالعُدوان والفسوق، والمنافية للمروءة كالطواف عاريًا دون ثياب - الرجال والنساء؛ كما كان في الجاهلية - حيث كانوا يَعتقدون في الجاهلية أن هذه الثياب قد ارتُكبَت فيها المعاصي، ولا يَجوز الطواف بها، فكانوا يَتعرَّون ويَطوفون عَرايا، وفي هذا تعريض بأن المشركين ليسوا أهلاً لعمارة المسجد الحرام؛ لأنهم لم يُطهِّروه مما يجب تطهيره منه؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ ﴾ [الأنفال: 34].
♦ فعن حُميد بن عبدالرحمن أن أبا هُريرة أخبَره، أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بعثَه - في الحَجَّة التي أمَّره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبْل حجَّة الوداع - يوم النحر في رهط يؤذِّن في الناس: ((ألاَ لا يَحج بعد العام مُشرِك، ولا يَطوف بالبيت عريان))[4]، قال النوويُّ: هو مُوافق لقول الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 28]، وقال النووي أيضًا: "والمراد بالمسجد الحرام هَهنا الحرم كلُّه، فلا يُمكَّن مُشرِك مِن دخول الحرم بحال، حتى لو جاء في رسالة أو أمر مُهمٍّ لا يُمَكَّن مِن الدخول؛ بل يَخرج إليه مَن يَقضي الأمر المتعلِّق به"، وعليه؛ فإن الحرم كله يجب أن يُحرَّز مِن دخول أي مُشرِك فيه، حتى ولو عن طريق الإعلام والقنوات الفضائية والأرضية، ويَجب تطهير الحرم كله مِن أي معصيَة، حتى ولو كانت هذه المعصية ضرورة؛ لاختِلاط الحق مع الباطل؛ مثل البرامج الإخبارية التي تظهر فيها المرأة شِبْه عارية.
♦ فالمصلحة الشرعية تَقتضي أن تُمنَع هذه البرامج - ولو كانت فيها مصلحة - عن أرض الحرم إطلاقًا؛ لِعدم مُناسَبة أن يدخل الحاجُّ الفندق الذي يُقيم فيه ويرى العمال وموظَّفي الاستقبال يُشاهِدون الأفلام الهِندية؛ ولذلك فإنه قطعًا لهذه المفسَدة يجب أن يُقطَع الإرسال الإعلاميُّ عن الحرم حتى لو كان فيه مصلحة، ما لم يُمكن تَطهير الإعلام بالكلية مِن كل معصية يُمكن أن تدنِّس طهارة المكان، وكذلك الإنترنت؛ لأن الحرم كله مسجد، ولا يَجوز في المسجد التعريَة.
والطواف بالبيت هو بيت القصيد في رحلة الحج هذه أو العمرة، والطواف في الشرع على أربعة أسباب:
(طواف القُدوم).
(طواف الإفاضة).
(طواف الوداع.
(طواف تحيَّة المسجد).
وهنا يَثور تساؤل يَتبادر لذهن كل مَن رأى الكعبة لأول وهلة، حول ماذا أطوف؟ وكيف ذلك؟ إنها حِجارة، وهل يُعقَل أن يطوف المسلم حول تلك الحجارة؟ أليس الإسلام جاء لتحطيم الأصنام والأوثان، فلماذا يَأمرنا المولى - سبحانه وتعالى - بالطواف حولها والسجود تجاهها؟ بل وتقبيل الحجر الأسود الذي بها؟ إنه حقًّا أمر عجيب! إن شيئًا في النفس يقع في نفس المسلم مِن ذلك، وقد وقع مِن قبل في صَدر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حينما قال: "إني أعلم أنك حجَر لا تضرُّ ولا تنفَع، ولولا أني رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلك ما قبَّلتُك"[5]، يقصد بذلك الحجر الأسود، إذًا فما الغايَة مِن ذلك في دين الله - تعالى -؟ وكيف يتمُّ التوفيق بين هذه الشَّعيرة وقوله - سبحانه -: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5]؟ يُجاب على ذلك بأن الأصل في العبادة المنْع، فلا يَجوز أن يُعبد الله - تعالى - بشيء لم يَشرَعْه، وإنما يُعبَد الله - تعالى - بما يَشرعُه لنا مِن عبادات سمَّاها لنا وبيَّنها، وعلى الطريقة التي شرَعها دون زيادة أو نقصان ولا تبديل أو تَحريف، فالله - تعالى - قد حاجَّ الكفار الذين كانوا يَسجُدون للأصنام، فاستنكَر عبادتهم فقال - سبحانه -: ﴿ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ [الأعراف: 71].
إذًا العبادة كي تصل إلى الله - تعالى - لا بدَّ وأن يُنزِّل الله بها سلطانًا، فمتى أمر بها يجب أن يُطاع أمره فلا يُعصى، ولا تَجوز مُناقشتُه في ذلك، فالمسلم عندما يُنفِّذ أمر الله - تعالى - فيَنصِب قدميه أمام القِبلة ويَكسِر ظهره راكعًا، ويضَع جبهته على الأرض ساجدًا، ويَمشي على قدميه طائفًا بالبيت، فذلك دالٌّ على كمال الانقياد لله - تعالى - والخُضوع التام والاستِسلام له، ذلك أن إبليس - عليه اللعنة - قد جادَل الله - تعالى - في أمره حينما أمَره ربُّه بالسجود لآدَم؛ قال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34]، وفي المُقابِل نَجد أن الملائكة جند الله - تعالى - لا تَعصي الله أبدًا ما أمَرها، قد نفَّذت الأمر وسجَدت دون أن تُجادِل ربَّها أو تُناقِشه، أو تسأله عن عِلَّة ذلك، وقد صدَر الأمر مِن الله فلا يُسأل عما يَفعل، أما إبليس، فلأنَّ الاستكبار تملَّك منه استكبر، وقال - تعالى -: ﴿ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ﴾ [الإسراء: 61]، فكان ذلك هو وجه الاستكبار منه؛ ولذلك فحينما يطوف المسلم حول الكعبة وهي مِن حجارة هذه الأرض وطينتِها، ويَسجد لله - تعالى - أمامها، فإنه يَمتثِل لأمر ربه، ويُخالِف المَوقِف الذي أوقع إبليس في المهلكَة، فالمولى - سبحانه - هو الذي يُحدِّد العلاقات بين خلقِه ويُسخِّر بعضها لبعض، ويَجعل بعضها سيدًا على بعض، فكما أنه أمر عبيده المؤمنين بالتذلُّل لبعضهم البعض؛ كما في كتابه: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54].
♦ وكما أنه أمر العبيد بأن يَخفِضوا جناح الذل لوالديهم فقال: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ [الإسراء: 24] ، فإنه - سبحانه - يَأمرنا بأن نُذلَّ أنفسَنا لبعض خلقِه، وأن نُعزَّها على بعض خلقِه كذلك، ونحن مأمورون بالسمع والطاعة له - سبحانه - دون مُناقَشة أو مجادَلة، فبذلَّة أنفسِنا لِما أمر - سبحانه - وعزتها على مَن أمر - سبحانه - نكون قد حقَّقنا معنى الطاعة والولاء لله - تعالى - وذلك هو تَمام الانقياد والخضوع والعبادة لله - تعالى - وذلك هو قوله - سبحانه -: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5]، والطواف بهذا المعنى السابق الإشارة إليه يؤكِّد مَقام الإنسان مِن ربِّه ومولاه، فهو مقام العبودية والاستِسلام الكامل له - سبحانه.
♦ والاعتكاف في المسجد الحرام هو المُكوث فيه وعدم مُفارقتِه طيلة مدة الاعتِكاف، وللمُعتكِف الحرية المطلَقة في تحديد مدة الاعتكاف، شريطة ألا تتعارَض مع مصالِح ضرورية هو مسؤول عنها، فإن كان في حلٍّ مِن التزام خارجي، فله أن يُطيل اعتكافه بقدر حاجته للأنس بالقرآن والسنَّة والصلاة والعبادة؛ حتى يَقوى بعد مُعتكفِه على مَصاعب الدنيا وهمومها وأشجانِها، فالاعتكاف مِن قبيل البيئة الروحية التي يَزرع المسلم نفسه فيها، فيَتغذَّى على قليل الطعام حتى يَلجِم شهوته، ويُكثر الصيام، ويُطرب أذنه من أصوات تلاوة القرآن في المسجد، ويُمتِّع عينَه بمَشاهِد الاجتهاد في العبادة أمامه، ويُصفِّي خاطره وفكره مِن شوائب الدنيا، ويَجعل قلبه عاكفًا على تدبُّر آيات الله - تعالى - فحسْب، وبذلك يَخرج المُعتكِف مِن مُعتكَفِه شافيًا مِن كل الأمراض، سليم القلب - إن شاء الله تعالى - مثل نبيِّ الله إبراهيم الذي قال الله فيه: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 83- 84] ، وذلك هو بيت القصيد؛ لقوله - تعالى -: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88- 89].
أما قوله - تعالى -: ﴿ الرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾، فالركوع والسجود هما حركتان تؤدَّيان في الصلاة، وهي كناية عن كثرة أداء الصلاة في المسجد الحرام؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة في مسجدي هذا خير مِن ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام))[6]، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وصلاة في المسجد الحرام أفضل مِن مائة ألف صلاة فيما سواه))[7]؛ وذلك لأن الصلاة في هذا المكان بالذات لا يؤديها المسلم مع بَني عَشيرتِه أو أهله أو جيرانه فحسْب؛ وإنما مع المسلمين في كل حدب وصَوب، وفي هذا توحيد لهذا الدين مهما تعدَّدت بقاع المسلمين وتعدَّدت أوطانُهم، فدِين الله - تعالى - واحد لا يتغير مهما تغيَّر الزمان أو المكان أو الأشخاص، وتظلُّ الشعائر كما هي حتى يوم القيامة.
قال العلماء:
أفضل المساجد مكَّة، ثم المدينة، ثم المَقدِس، ثم قباء، ثم الأقدم، ثم الأعظم، ثم الأقرب، ومسجد أستاذه لدرسِه أو لسماع الأخبار أفضل اتفاقًا، ومسجد حيِّه أفضل مِن الجامع؛ لئلا يؤدِّي إلى تعطيل مسجد المحلة، وهذا مُخالِف لما ذكَره صاحب الأشباه في أحكام المسجد مِن أن الجوامع أفضل مِن مساجد المحالِّ[8]، وحتى لا يَفقد المسجد الحرام قيمتَه في قلوب المسلمين، ومثله مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الأقصى أولى القِبلتَين، فلا يجوز أن يُقصَد مسجد بذاته غير هذه المساجد؛ ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومسجد الأقصى))[9].
[1] رواه مسلم (4: 1990)، رقم: (2569).
[2] رواه البخاري (2: 553)، رقم: (1449).
[3] رواه البخاري (1: 159) رقم: (397).
[4] رواه البخاري (2: 586)، رقم: (1543)، ورواه مسلم (2: 982)، رقم: (1347).
[5] رواه البخاري (2: 579)، رقم: (1520).
[6] رواه البخاري (1: 398)، رقم: (1133).
[7] رواه ابن ماجه (1: 451)، رقم: (1406)، وصحَّحه الألباني.
[8] شرح سنن ابن ماجه، المؤلِّف: السيوطي، عبدالغني، فخر الحسن الدهلوي، الناشر: قديمي كتب خانة - كراتشي.
[9] رواه البخاري (1: 398)، رقم: (1132).
العبد الفقير الى الله
حامد عباس
مصرى حر