ومع هذا فان حذيفة يخلف في هذا المجال كل الظنون..
ورجل الصومعة العابد، المتأمل لا يكاد يحمل شيفه ويقابل جيوش الوثنية والضلال حتى يكشف لنا عن عبقرية تبهر الأبصار..
وحسبنا أن نعلم، أنه كان ثالث ثلاثة، أو خامس خمسة كانوا أصحاب السبق العظيم في فتوح العراق جميعها..!
وفي همدان والري والدينور تم الفتح على يديه..
وفي معركة نهاوند العظنى، حيث احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين الفا.. اختار عمر لقيادة الجيوش المسلمة النعمان بن مقرّن ثم كتب الى حذيفة أن يسير اليه على رأس جيش من الكوفة..
وأرسل عمر الى المقاتلين كتابه يقول:
" اذا اجتمع المسلمون فليكن على كل أمير جيشه.. وليكن أمير الجيوش جميعها النعمان بن مقرّن..
فاذا استشهد النعمان، فليأخذ الراية حذيفة، فاذا استشهد فجرير بن عدالله..
وهكذا مضى أمير المؤمنين يختار قوّاد المعركة حتى سمّى منهم سبع...
والتقى الجيشان..
الفرس في مائة ألف وخمسين ألفا..
والمسلمون في ثلاثين ألفا لاغير...
وينشب قتال يفوق كل تصور ونظير ودارت معركة من أشد معارك التاريخ فدائية وعنفا..
وسقط قائد المسلمين قتيلا، سقط النعمان بن مقرّن، وقبل أن تهوي الراية المسلمة الى الأرض كان القائد الجديد قد تسلمها بيمينه، وساق بها رياح النصر في عنفوان لجب واستبسال عظيم... ولم يكن هذا القائد سوى حذيفة بن اليمان...
حمل الراية من فوره، وأوصى بألا ندع نبأ موت النعمان حتى تنجلي المعركة.. ودعا نعيم بن مقرن فجعله مكان أخيه النعمان تكريما له..
أنجزت المهمة في لحظات والقتال يدور، بديهيته المشرقة.. ثم انثنى كالاعصار المدمدم على صفوف الفرس صائحا:
" الله أبكر صدق وعده!!
الله أكبر نصر جنده!!"
ثم لوى زمام فرسه صوب المقاتلين في جيوشه ونادى: يا أتباع محمد.. هاهي ذي جنان الله تتهيأ لاستقبالكم فلا تطيلوا عليها الانتظار..
هيا يا رجال بدر..
تقدموا يا ابطال الخندق وأحد وتبوك..
لقد احتفظ حذيفة بكا حماسة المعركة وأشواقها، ان لم يكن قد زاد منها وفيها..
وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس.. هزيمة لا نكاد نجد لها نظيرا..!!
**
هذا العبقري في حمته، حين تضمّه صومعته..
والعبقري في فدائيته، حين يقف فوق أرض القتال..
هو كذلك العبقري في كل مهمةتوكل اليه، ومشورةتطلب منه.. فحين انتقل سعد بن أبي وقاص والمسلمون معه من المدائن الى الكوفة واستوطنوها..
وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغا.
مما جعل عمر يكتب الى سعد كي يغادرها فورا بعد أن يبحث عن أكثر البقاع ملاءمة، فينتقل بالمسلمين اليها..
يومئذ من الذي وكل اليه أمر اختيار البقعة والمكان..؟
انه حذيفة بن اليمان.. ذهب ومعه سلمان بن زياد، يرتادان لمسلمين المكان الملائم..
فلما بلغا أرض الكوفة، وكانت حصباء جرداء مرملة. شمّ حذيفة عليها أنسام العافية، فقال لصاحبه: هنا المنزل ان شاء الله..
وهكذا خططت الكوفة وأحالتها يد التعمير الى مدينة عامرة...
وما كاد المسلمون ينتقلون اليها، حتى شفي سقيمهم. وقوي ضعيفهم. ونبضت بالعافية عروقهم..!!
لقد كان حذيفة واسع الذكاء، متنوع الخبرة، وكان يقول للمسلمين دائما:
" ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه"...
**
وذات يوم من أيام العام الهجري السادس والثلاثين..دعي للقاء الله.. واذ هو يتهيأ للرحلة الأخيرة دخل عليه بعض أصحابه، فسألهم:
أجئتم معكم بأكفان..؟؟
قالوا: نعم..
قال: أرونيها..
فلما رآها، وجدها جديدة فارهة..
فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم:
" ما هذا لي بكفن.. انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص..
فاني لن أترك في القبر الا قليلا، حتى أبدّل خيرا منهما... أو شرّ منهما"..!!
وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها:
" مرحبا بالموت..
حبيب جاء على شوق..
لا أفلح من ندم"..
وصعدت الى الله روح من أعظم أرواح البشر، ومن أكثرها تقى، وتآلقا، واخباتا...