المسجد الأقصى بين انتدابين

عبد القادر الأسمر – الامان – حماسنا
-------

عندما سمحت السلطات الاسرائيلية لقناة «الجزيرة» بنقل وقائع تهديم الأبنية الملاصقة لباب المغاربة في الجهة الغربية من المسجد الأقصى يوم الثلاثاء الماضي في بث مباشر، فلكي تمعن في تحدّي العرب والمسلمين بكل استخفاف، وهي تعلم أنها لن تقابل إلا بردود فعل كلامية.

وهي ليست المرة الأولى التي تمارس فيها «اسرائيل» عملية تهديم المباني المجاورة لهذا الحائط، واقامة أنفاق تحت المسجد الأقصى للتفتيش عن هيكل سليمان المزعوم. وتشير الاحصاءات الى انهم نفذوا أربعين اعتداءً ما بين عامي 1967 - 1990، وأكثر من سبعين اعتداءً منذ ما سمي عملية السلام في أوسلو عام 1993، على الرغم من صدور قرار من مجلس الأمن في 30/1/1980 بإعلان بطلان جميع اجراءات التهويد، وهو القرار اليتيم الذي لم تشهر فيه الولايات المتحدة الأميركية «الفيتو» ضده واكتفت بالامتناع عن التصويت، في حين رفضت عدة مشاريع قرارات في هذا المجال ومنها شجب قتل 11 مصلياً في المسجد الأقصى نفذه جندي اسرائيلي عام 1982، كما رفضت مشروع قرار في العام 1986 يدعو «إسرائيل» الى احترام المقدسات الإسلامية.

هذه المهمة الأميركية في الذود عن «اسرائيل» ومعارضته أيّ قرار يدينها، كانت تقوم بها بريطانيا في أثناء احتلالها فلسطين والتي تولت رعاية العصابات الصهيونية وتسهيل هجرة اليهود والتصدي للعرب.

وكان المستوطنون اليهود يتدفقون الى حائط البراق، أو المبكى على زعمهم، ليمارسوا طقوسهم في ظل حماية الحراب الانكليزية. وقد تنبّه مفتي القدس آنذاك المرحوم الشيخ أمين الحسيني الى هذه الممارسات، فقام بعدّة إجراءات لتثبيت الوضع الإسلامي في القدس، وخاصة في المسجد الأقصى، فقام باصلاح الحائط الغربي وتبليط الساحة حوله، ليثبت أنه جزء من الأقصى وانه حق للمسلمين.. وعندها قام اليهود بكل وقاحة للاحتجاج لدى حاكم القدس البريطاني ضد اجراءات المفتي الحسيني دون إذن اليهود.

ثم تجرأوا في العام 1929 على احتلال هذا الجدار، ما أدى الى قيام «ثورة البراق» التي امتدت الى أنحاء فلسطين، وقام الانكليز بقمعها، وسقط حوالى 400 فلسطيني بين قتيل وجريح.. وكان ردّ القيادة السياسية العربية آنذاك مطالبة الفلسطينيين بالتهدئة.. وخمدت الثورة.

لكن الشعوب العربية والإسلامية بادرت عام 1931 الى اقامة «المؤتمر الإسلامي العام» في حضور ممثلي 22 بلداً عربياً وإسلامياً منهم الشيخ محمد رشيد رضا ومحمد إقبال، وتشكلت جراء هذا المؤتمر لجنة دولية سميت «لجنة البراق الدولية» للتحقيق في أسباب ثورة البراق وما تلاها، وأصدرت قرارها بأن حائط البراق هو حق للمسلمين وحدهم. وقد رفضت أميركا - عفواً بريطانيا - التقرير واعلنت تأييدها اليهود وإقامة وطن قومي لهم، فاندلعت الثورات في أنحاء فلسطين.

واستمر الاسرائيليون في مخططهم تهويد القدس وتقويض المسجد الأقصى لبناء هيكلهم المزعوم عندما سارع حاخام الجيش الاسرائيلي «شلومو جورن» بعد احتلال القدس الشرقية في حزيران 1967 الى اقامة الطقوس الدينية اليهودية امام حائط البراق، ويعلن «إن حلم الأجيال اليهودية قد تحقق، فالقدس لليهود ولن يتراجعوا عنها، وهي عاصمتهم الى الأبد». وبدأوا بإزالة حيّ المغارية الملاصق له وحوّلوه الى ساحة عبادة لهم.

ولم تتحرك نخوة قادة العرب والمسلمين إلا عام 1969 عندما أقدم صهيوني من أصل أوسترالي على اشعال النار في المسجد الأقصى التهم منبر صلاح الدين والعتبة، فقرروا إنشاء «المؤتمر الإسلامي» وتشكيل «لجنة القدس» التي لم يظهر لها أيّ أثر فعّال في إنقاذ القدس والأقصى حتى الآن.

وإذا كانت الانتفاضات الفلسطينية تزداد حدّتها عندما تستهين السلطات الاسرائيلية بالمقدسات الاسلامية، فإن كبرى هذه الانتفاضات، أو الانتفاضة الثانية، قد بدأت يوم 28 أيلول 2000 عندما أقدم رئيس حزب الليكود أرييل شارون على تدنيس المسجد الأقصى بحماية ثلاثة آلاف جندي، حيث هبّ المصلون للدفاع عن مقدساتهم، وشهدت ساحات المسجد أعنف مصادمات تساقط فيها الشهداء العزّل. ورغم ذلك فلم يبادر العالم المتمدن الى اتخاذ قرار يردع «اسرائيل» عن جرائمها، ولم يكن امام الشعوب العربية والاسلامية سوى التظاهرات العارمة ومهاجمة السفارات الاسرائيلية والأمريكية.

إذاً، ليس مشهد الجرافات الاسرائيلية أمام باب المغاربة في المسجد الأقصى الذي تسمّر أمامه المشاهدون طوال الثلاثاء الماضي حدثاً جديداً أو مفاجئاً، فمسلسل الانتهاكات وعمليات التهويد المستمرة منذ عدة عقود لم يتوقف، وهو الآن أمام سمع «المؤتمر الإسلامي» وبصر «لجنة انقاذ القدس» بكل وقاحة والصهاينة يعلمون بكل ثقة أن العرب والمسلمين سيكتفون بالاعراب عن استنكارهم، أو إذا استطاعوا، فدعوة لمجلس الأمن لاتخاذ مشروع قرار بالتنديد، ستسقطه أمريكا بالفيتو، وكأنها تعيدنا بالذاكرة الأليمة الى عهد بريطانيا الانتداب..

وهل هناك كبير فارق بين الانتدابين: البريطاني سابقاً، والأميركي حالياً؟!