ثم يقول في مكان آخر:
”... إن هذا القرآن يُطهر الصدور، ويُلقي فيها النور، ويُرِي الحبورَ الروحاني والسرور، ومن تبعه يجد نورًا وجده النبيُّون. ولا يَلقَى أنوارَه، إلا الذين لا يريدون عُلوًا في الأرض ولا فسادًا، ويأتونه راغبا في أنواره، فأولئك الذين تُفتّح أعينهم، وتُزَكّى أنفسهم، فإذا هم مبصرون. وإني بفضل الله من الذين أعطاهم الله من أنوار الفرقان، وأصابهم حظ من أتم حظوظ القرآن، فأنار قلبي ووجدت نفسي هداها كما يجده الواصلون. ثم بعد ذلك أرسلني ربي لدعوة الخلق، وآتاني من آياتٍ بيِّنةٍ لأدعو خلقه إلى دينه، فطوبى للذين يقبلونني ويذكرون الموت، أو يطلبون الآيات وبعد رؤيتها يؤمنون“.
<table align=left cellpading="2"><tr><td>(الخزائن الروحانية ج5. كتاب: مرآة كمالات الإسلام ص 531-532)</TD></TR></TABLE>
وفي مكان آخر كتب يرد على أولئك الذين صوّبوا سهام نقدهم للقرآن فقال:
”قد كتبنا غير مرة أن القرآن الكريم قد جمع التعاليم، وأكمل التفهيم، وأنه مشتمل على علوم الأوّلين والآخرين. وهو بعلوّه كأبحر لا كحياض، وفاق كل لُجّة بذيل فضفاض، وفيه نور أصفَى من نور العَيْن، ونقيّ من الدّرَنِ والشّيْن. صحفٌ مطهرة فيها كتبٌ قيمة، وحِكَمٌ معجبة مع حُسن بيان، وبلاغة ذي شأن، تسر الناظرين. وهو إعجاز عظيم بفصاحة كلماته، وبلاغة عباراته، ورِفعة معارفه، وباكورة نِكاته.....
ثم يوجه كلامه إلى أعداء القرآن فيقول:
"أيها الجهلاء.. أنتم تصولون على كلام قد أودعت سر المعارف أسرّتُه، ومأثورةٌ سمعتُه وشهرتُه، ومشهورةٌٌ عصمتُه وطهارتُه، وسُلّمَ نضارُه ونَضرَتُه، واشتهر تأثيرُه وقوّتُه، فلا يُنكره إلاّ مَن فسدتْ فطرتُه. ألا ترون إلى قَصْرٍ شاده القرآن، وإلى علومٍ أكملها الفرقان، وإلى أنوار أترعَ فيه الرحمان؟ ووالله لا نظير له في إحياء الأموات، ونفخ الروح في العظام الرفات. جاء في وقت انقراض حِيَل الصلحاء، وظهر بعد اكفهرار الليلة الليلاء، وَوَجد الخلقَ كمعروق العظم وأخي العَيْلة، أو كنائم في الليلة. فنوّر وجه الناس ولا كإنارة النهار، وناولهم مالا كثيرا من دُرَر العلم وأنواع الأنوار، فانظر هل ترى مثله في تأثير، ثم ارجع البصر هل ترى من نظير؟“
<table align=left cellpading="2"><tr><td>(الخزائن الروحانية: ج8، كتاب: نو الحق الجزء الأول ص178)</TD></TR></TABLE>
وكتب يرد على أحد علماء المسلمين، الذي ارتد عن الإسلام واتبع سبل الشياطين، واحتفظ باسمه الإسلامي فكان يطلق على نفسه اسم عماد الدين، وألّف كتابا سماه "توزين الأقوال"، لينشر به الفساد والكفر والضلال، ويضل به عامة المسلمين، فتصدى له أسد الله المتين، وكتب يقول:
”... ثم إنك ظننتَ أن القرآن ليس في بلاغته إلى حدّ الإعجاز، بل يوجد فيه رائحة التكلف والارتماز، ولا يُميّز رقيق اللفظ من الجزل، والجدّ من الهزل، وفيه ألفاظ وحشية، وكلمات أجنبية، وليس بعربي مبين.
أما الجواب فاعلم أن هذا القول منك ومن أمثالك أعجب العجائب، وأعظم الغرائب، ولا يرضى به أحد من المنصفين. ألا تعلم يا مسكين أنك رجل من الجهال، ولا تدري إلا مكائد الضلال، ولا تعلم أساليب لسان العرب وطرق بلاغة المقال، بل أظن أنك لا تعرف حرفا من العربية، فكيف اجترأت على هذه الغزمرة الكريمة؟ أتصول أيها الجاهل الكاهل على الذي أفحم أكابر بلغاء الزمان، وأتم الحجة على الفصحاء أهل اللسان، وخضعت له أعناق الأدباء، وآمن به نوابغ الشعراء، وجاؤوا خاضعين مُقرّين؟ أأنت أسبق منهم في معرفة مواد الأقاويل، وتمييز الصحيح من العليل، أو أنت من المجنونين؟ ألا تعلم أنهم كانوا أهل اللسان، وقد غُذّوا بلبان البيان، وكانوا يُصْبُون القلوب بأفانين العبارات، ومُلَحِ الأدب ونوادر الإشارات، وكانوا في هذه السلك وعلم محاسنها من الماهرين؟
ألستَ تعلم أن القرآن ما ادّعى إعجاز البلاغة إلا في الرياغة، فإن العرب في زمانه كانوا فصحاء العصر وبلغاء الدهر، وكان مدار تفاخرهم على غرر البيان ودرره، وثمار الكلام وزهره، وكانوا يُناضلون بالقصائد المبتكرة والخطب المحبّرة، ولكن ما كان لهم أن يتكلموا في اللطائف الحِكَمية، وما مسَّتْ بيانهم رائحة المعارف الإلهية، بل كان مسرح أفكارهم إلى الأبيات العشقية، والأضاحيك الملهية، وما كانوا على ترصيع مضامين الحِكَم قادرين؟ وكانوا قد مرَِنوا من سنين على أنواع النظم والنثر ولطائف البيان، وسُلّموا وقُبِلوا في الأقران، وكانوا أهل اللسان وسوابق الميادين.
فخاطبهم الله وقال:
(إِنْ كُنْتُمْ فيِ رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ .... فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتيِ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)......
وقال: ( قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلِى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا).
فعجز الكفار عن المقابلة وولوا الدبر كالمغلوبين. ولما عجزوا عن النضال في البيان، مالوا إلى السيف والسنان، متندمين مغتاظين. وكثير منهم أسلموا نظرا على هذه المعجزة، كلبيد بن ربيعة العامري صاحب المعلقة الرابعة، فإنه أدرك الإسلام، وتشرّف به وأرى الإخلاص التام، ومات سنة إحدى وأربعين. وكذلك كثير منهم أقرّوا بأن القرآن مملوّ من العبارات المهذبة، والاستعارات المستعذبة، والأفانين المستملحة، والمضامين الحكميّة الموَشّحة، بل من أمعن منهم النظر فسعى إلى الإسلام، وحضر ودخل في المؤمنين...“.
<table align=left cellpading="2"><tr><td>(المرجع السابق ص144)</TD></TR></TABLE>
إن من يحب القرآن الكريم هذا الحب، ومن يُكرّس حياته للذود والدفاع عنه من صميم القلب، فإن الله تعالى يفتح أمامه سبل العرفان، ويؤتيه كنوز معارف الفرقان، فيكون أقدر الناس على فهم هذا الكتاب العظيم، فإنه كتاب لا يعلم تأويله إلا الله العليم، ولا يمسه إلا المطهرون بيد الله الكريم، وهو وحده سبحانه الذي يستطيع أن يؤتي ذلك التأويل الصحيح، والتفسير الفصيح، لمن شاء من عباده الذين ملأ حب القرآن قلوبهم، وأنار بنوره الوضّاء ظاهرهم وباطنهم. ولكي يدلل سيدنا أحمد على أنه صادق غير كاذب، وأنه قد قام فعلا بأمر الله تعالى، وأن الله تعالى قد جعله من المطهرين، الذين آتاهم سبحانه علوم القرآن المبين، فقد دعا العلماء في البلاد العربية وغيرها، أن يكتبوا تفسيرا لسورة الفاتحة في سبعين يوما، وكتب هو تفسيرا لهذه السورة الجامعة، فكان التفسير ظلا لكلام الله تعالى، بما احتواه من معان لم يُشر إليها أحد من قبل في كافة التفاسير المنشورة. ولولا ضيق الوقت لقرأنا عليكم نبذة من ذلك التفسير، الذي يتضح منه كيف أنه يستنتج المعاني العميقة، من الكلمات التي نقرأها في الصلاة عديدا من المرات، دون أن يفطن أحد إلى أنها تحتوي على تلك اللآلئ من المعاني وكنوز الحكم.
لقد أحبّ سيدنا أحمد القرآن حبًّا جمًّا، فعلّمه الله تعالى من لدنه عِلمًا، وآتاه علوم القرآن، وأنار بصيرته بنور الفرقان، فاستطاع أن يرى بنور الله في الآيات فصوصا من الحكم، بينما لم ير سواه في التفسير غير اللمم. وقد ملك كتاب الله قلبه وفؤاده، فأعطاه الله كل ما سأله وأراده، ولذلك لم يكن له مثيل في الدفاع عن القرآن، لأنه كان على يقين أنه كتاب عظيم الشأن، لا يأتي بمثله إنس ولا جان، ولا يصل إلى حقيقة معانيه إلاّ من طهّره الرحمن. فهو كتاب لا يفهمه إلاّ المؤمنون المخلصون، كما أنه كتاب محفوظ مكنون، لا يمسّ معانيه إلاّ المطهرون.
وكما هو شأن المحبين.. الذين يعبّرون عن هواهم بأعذب الأغنيات، ويصفون غرامهم بأرقّ الكلمات، أنشد سيدنا أحمد عليه السلام يتغنى بمدح القرآن، ونقتطف هذه الباقة من بعض قصائده التي قال فيها:
هَلُمَّ إِلـَى كِتَابِ اللهِ صِـدْقــاً
وَّإِيمَانًا بِتَصْدِيقِ الْجَنـَانِ
وَمَـا الْقُـــرْآنُ إِلاَّ مِـثْلَ دُرٍّ
فَرَائِدَ زَانَهَا حُسْنُ الْبَيَانِ
بِـهِ مَا شِئْـتَ مِنْ عِلـْمٍ وَعَقْـلٍ
وَأَسْرَارٍ وَأَبْكـَارِ الْمَعَانِي
يُسَـكِّتُ كُـلَّ مـَنْ يَعْدُو بـِضِغـْنٍ
يُبَـكِّتُ كـُلَّ كـَذَّابٍ وَجــَان
رَأَيْـنَا دَرَّ مُزْنــَتِهِ كَثِــيرًا
فَدَيْنـَا رَبَّنَا ذَا الامْتِنِانِ
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقُـرآنُ فَيْضًا
خَفِيرٌ جَـالِبٌ نَحْوَ الـْجِنَانِ
لـَهُ نُــورَانِ نـُورٌ مـِّنْ عُلُومٍ
وَنـُورٌ مِّنْ بَيـَانٍ كَالْجُمَانِ
كَـلاَمٌ فـَائِقٌ مَّــا رَاقَ طَرْفـيِ
جَمـَالٌ بـَعْدَهُ وَالنّـَـيِّرَانِ
أيَـاتُ الشَّمْسِ عِنْدَ سَنـَاهُ دَخْنٌ
وَمَالِلَّعْلِ وَالسَّبْتِ الْيَمَانيِ
وَأَيْنَ يَكُــونُ لِلْقُــرآنِ مِثـْلٌ
وَلَيْسَ لَهُ بِهَذَا الْفَضْل ثَانِي
وَرِثْنَا الصُّحُفَ فَاقَتْ كُـلَّ كُتـُبٍ
وَسَبَقَتْ كـُلَّ أَسْفـَارٍ بـِشَـأْنِ
وَكُلُّ النُّورِ في الْقُـرآنِ لـَكِنْ
يَمِيلُ الْهَالِكُونَ إِلَى الدُّخَانِ
بِـهِ نِلْنَا تُـراثَ الْكَاملِينـاَ
بِهِ سِرْنَا إِلَى أَقْصَى الْمَعَانيِ
فَـقُمْ وَاطـْلُبْ مَعَارِفَهُ بِجُـهْـدٍ
وَخَفْ شَرَّ الْعَوَاقِبِ وَالـْهَوَانِ
وَآخـِرُ كَلِمـِنـَا حَمْـدٌ وَشُـكـْرٌ
لِرَبٍّ مُّـحْسِـنٍ ذِي الامـْتـِنَانِ